شارك هذا الموضوع

في ذكرى استشهاد آية الله السيد محمد باقر الحكيم " قدس "

في ذكرى استشهاد آية الله السيد محمد باقر الحكيم " قدس "



ليس من العدل والإنصاف بمكان أن ندعي أن ما سنكتبه عن الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم " قدّس سرّه " سيكون وافياً ومحيطاً بكل جوانب حياته ونشاطاته، وإنما هي رؤوس أقلام ليس إلا، ومجرد إشارات فقط، لان الكتابة عنه " قدّس سرّه " أمر لا يخلو من صعوبة ومشقة، فالرجل قد امتد نشاطه لأكثر من نصف قرن، كانت سنينه معبأة ومثخنة بالأحداث والتطورات، حيث امتازت هذه السنين بصعود الخط البياني لقوة المرجعية وتعاظم نشاطها، وما تبعه من متغيرات على كافة الأصعدة والمستويات، وكان " قدّس سرّه " مرافقاً لهذا الصعود وداخلاً في عمقه، حيث أنه كان أحد العقول المهمة في الجهاز المرجعي للإمام الحكيم، وأحد أهم مستشاري الإمام الصدر ومنسقاً فعالاً بينه وبين الإمام الخوئي وأحد الداعمين بقوة لمرجعية الإمام الخميني " قدس " . ومن جهة أخرى كانت ولادته في بدايات الحرب الكونية الثانية وما نتج عنها من تجاذبات بين القطبين ألقت بظلالها على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي فيما بعد، وما نتج عنها من انعطافات مهمة في حركة الشعوب العربية والإسلامية على مستوى الوعي المرجعي والديني والسياسي والعلمي والثقافي والاجتماعي . ومن هنا تصبح الإحاطة بسيرة شهيدنا بحاجة إلى بحث واسع، ومراجعة كثيفة للأحداث، ودراسة معمقة للتطورات، كي يمكن الخروج بنتائج نيرّة المعالم وناصعة الوضوح خصوصاً وأن حياته تمثل مقطعا مهما من تاريخ العراق الحديث والحركة المرجعية والإسلامية والعلمية والثقافية .


حرص " قدّس سرّه " على تزكية علمه منذ شبابه وكان جل طموحه نشر ثقافة أهل بيت النبوة عليهم السلام وتغذية الأمة بعطائهم الفكري «زكاة العلم أن تعلمه عباد الله» ولذا تميز عن كثير من أقرانه بحركته الدؤوبة في المجال الثقافي والتبليغي مما حدى باللجنة المشرفة على مجلة الأضواء إلى استدعاءه ليكون أحد المشرفين على المجلة، وكان انفتاحه الفكري على المنهج العلمي الأكاديمي وقناعته بضرورة التواصل الفكري الأكاديمي بين الجامعة والحوزة العلمية واعتقاده الراسخ في أن كتاب الله هو أهم دعامات تقوم عليها تربية الجماعة الصالحة سبباً في انتخابه للتدريس في كلية أصول الدين التي كانت ضمن المشروع الثقافي والاجتماعي العام لمرجعية الإمام الحكيم " قدّس سرّه " ومؤسساتها وكان لشهيدنا الغالي جهود في التخطيط والإسناد والمتابعة لها، فأنتدب أستاذا لقسم علوم القرآن الكريم والشريعة والفقه المقارن للاستفادة من ثقافته وعلومه، وقد سجل نجاحا باهراً رغم حداثة سنه، حيث لا يزيد عمره آنذاك على الخمسة وعشرين عاما، ونظراً لقناعته المتأصلة في قيمومة المرجعية الدينية على هكذا مشاريع باعتبارها صاحبة الولاية الشرعية وافق على الانضمام إلى اجتماعات الهيئة التدريسية والإشراف على مجلة رسالة الإسلام ورغم صعوبة السفر والتنقّل حينذاك بين بيته في النجف الأشرف وكلية أصول الدين في بغداد إلا انه ظل مواظباً على سفره الأسبوعي وتحمله مشاق السفر وإدارة الكلية خصوصا بعد غياب العلامة السيد مرتضى العسكري عن عمادة الكلية بسبب مطاردة البعثيين له بعد وصولهم إلى كرسي الحكم في العراق سنة 1968 غير أن حزب البعث الطائفي قرر منذ تسلمه السلطة ضرب البنية التحتية لثقافة أهل البيت «عليهم السلام» والإجهاز على كل مراكزهم الثقافية، فكلية أصول الدين كانت واحدة من الأهداف التي استهدفها الفكر الطائفي للبعثيين، فتم مصادرتها من قبل نظام حكم حزب البعث عام 1975 وإغلاقها وبذلك حرموا المثقفين من الاستفادة من علوم أهل البيت على يد أكابر الأساتذة كشهيد المحراب " قدّس سرّه " وقد ترك هذا السلوك البعثي أثراً سلبياً في نفس الشهيد فهو يرى بأم عينيه تدمير مواقع الانتماء الأصيلة للمسلم واحداً تلو الآخر مما جعل أهداف العصابة البعثية تتضح في ذهنه يوما بعد آخر .
تستطع كلية أصول الدين احتلال كل اهتمام شهيدنا، ولم تكن هي الإشراقة الوحيدة التي كان " قدّس سرّه " يرى الآخرة من خلالها - رغم إن دخوله الحرم الجامعي بزيه العلمائي وانه نجل المرجع الديني ذلك الوقت كان يمثل خطوة كبيرة باتجاه العمل التبليغي للحوزة العلمية ونقلة ومنعطفا مهما في العقلية الأكاديمية آنذاك وإنما كان ذهنه الثاقب مملوءاً بالأفكار ونفسه الزكية مزدانة بالطموحات والهموم الحوزوية ألقت بظلالها على صفحة طموحاته فأقتطع جزءاً من وقته الشريف لتدريس المناهج الحوزوية على مستوى السطوح العالية إيمانا منه بضرورة رفد الحوزة العلمية بكوادر تمتاز بالعمق والدقة لتصون الجماعة الصالحة من وباء الأفكار المستوردة فأعطى كل ما عنده من عمق في الاستدلال ودقة في البحث والنظر حيث عُرف بقوة الدليل وتماسك الحجة ورصانة التفكير أعطى كل هذه الخصائص التي انعم الله بها عليه إلى تلامذته وطلابه كشقيقه الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم " قدّس سرّه " الذي درس عنده الجزء الأول من الكفاية، وحجة الإسلام والمسلمين السيد محمد باقر المهري، الذي درس عنده الجزء الثاني من الكفاية، وحجة الإسلام والمسلمين السيد صدر الدين القبانجي والعلامة الشهيد السيد عباس الموسوي الأمين العام السابق لحزب الله - لبنان، والعلاّمة الشيخ أسد الله الحرشي، والفاضل الشيخ عدنان زلغوط، والسيد حسن النوري، والشيخ حسن شحاده، والشيخ هاني الثامر، وغير هؤلاء كثيرون اللذين استفادوا من سماحته " قدّس سرّه " في مجال علوم الفقه وأصوله في حلقة درسه المتواضعة بمسجد الهندي وفي إيران بدأ سماحته تدريس كتاب القضاء والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم الإسلامي على مستوى البحث الخارج. ولقناعته التامة بضرورة تواصل رجل الدين مع كل ما يطرح على الساحة الثقافية من أفكار وأطروحات جديدة سواء كانت قادمة عبر الكتب أو المجلات أو الصحف فقد كان مكثراً من المطالعة وقارئاً لا يمل القراءة في كتب التاريخ والتراث والسيرة فولّد عنده قدرة ممتازة على التحليل والنقد الموضوعي .
روي عن النبي " ص " أنه قال : " إذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وشاهد مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو أوضح دليل إلى خير سبيل، من قال به صدق ووفق، ومن حكم به عدل، ومن أخذ به أجر " .
لا نبالغ كثيراً ولا قليلاً إن قلنا أن «شهيد المحراب» سار خلف القران حينما التبست الأمور على شيعة أهل البيت " عليهم السلام " وأضحت كقطع الليل المظلم يتلمس أوضح الأدلة على الحق المهتضم والضائع بين جبروت الطغاة ونفاق الوعاظ، فالقران من وجهة نظره هو الركيزة الأساسية في حفظ الجماعة الصالحة حيث يقول " لقد اهتم أهل البيت «ع» اهتماماً خاصاً ومتميزاً بجانب الفكر والعقيدة، لأنه يعتبر الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه بناء أي جماعة بشرية، وبمقدار ما يكون هذا الجانب قوياً وواضحاً ومنسجماً وشمولياً، تكون الجماعة قوية وقادرة على مواجهة المصاعب والمشكلات والظروف المختلفة التي تفرزها حركة التاريخ " ومن خلال هذه الرؤية لدور الجانب العقائدي والفكري نجد أن القران الكريم يهتم به أكبر اهتمام، ويعالج - في المجتمع الجاهلي - القضية العقائدية والفكرية قبل كل شئ . ويرسخ في المجتمع «الجماعة الصالحة» هذه القضية، فليس غريباً بعد هذا أن نلاحظ اهتمام شهيدنا بالقران الكريم اهتماماً بالغاً منذ بداية حياته العلمية حتى شهادته، حيث عكف على دراسته وتدريسه وهو في أحلك الظروف وأشدها قسوة عليه، ففي إيران انكب على تدريس علوم القران وتفسيره، مضافاً إلى محاضراته القرآنية الكثيرة في الوسط الإيماني والتي ركز فيها مفاهيم القران، وتتوجت هذه الجهود بالتالي :
۱- علوم القرآن «مجموعة محاضرات ألقاها على تلامذته في كلية أصول الدين»، وقد نقحه وأضاف عليه وأعيد طبعه وهو كتاب كبير ومهم. وقد تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية .
۲- القصص القرآني. كتاب كبير يدرس في الجامعة الدولية للعلوم الإسلامية في إيران، ويجري العمل الآن على ترجمته إلى اللغة الفارسية .


رحم الله شهيدنا الكبير وحشره مع أجداده الأطهار عليهم السلام

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع