رؤى: علي أحمد الديري:
المهرجان الثقافي التراثي الأول لمركز السنابس الثقافي الذي حمل اسم (الإسكافي) كان مصدر إغراء لأكثر من طرف ولأكثر من قراءة توظيفية. فقد وظفته بعض الأطراف لإنتاج قراءة ترى في هذا المهرجان انشغالاً بالثقافي وابتعاداً عن السياسي، وفي هذا الانشغال نموذج ينبغي لبقية المناطق المحتقنة بالأنشطة السياسية أن تحتذي به. ووظفته بعض الأطراف لإنتاج قراءة ترى فيه نموذجاً للتفاعل مع مشاريع الملك الإصلاحية، وقد جعلت من ملتقى أصيلة- البحرين (وليس من مهرجان أصيلة المغربي) أصلاً لصدى صوت هذا المهرجان. ووظفته بعض الأطراف لبث رسائل ضمنية لخصومها السياسيين استناداً إلى قراءتها الوظيفية. بعض الأطراف وجدت في شخصية الإسكافي الذي حمل عنوان المهرجان ضالتها فراحت تقرأه بأفق الحدث الحاضر لإنتاج قراءة ترى في المهرجان من خلال شخصيته نموذجاً للسلم الاجتماعي والانفتاح والتسامح وتقبل اختلاف التوجهات السياسية. وبعيداً عن قراءات الأطراف الكبار، كانت هناك ردود الفعل المباشرة للجمهور الذي رأى في المهرجان بهجة جمالية واجتماعية بعيداً عن أي توظيفات سياسية أو ثقافية أو اجتماعية.
لنقل إن مهرجان السنابس قد قرأ بأكثر من عين، وقد استخدم لأكثر من وظيفة وقد خدم أكثر من طرف وجهة. هل يعني ذلك أن هناك سوء تأويل لهذا الحدث؟ وهل يعني أن علينا أن نصادر هذه التأويلات، ونفضح ما وراءها من نيات مبيتة ومصالح مشتركة؟
كثافة الحدث
بالطبع لا، لذلك لن أصادر أي قراءة من هذه القراءة ولا توظيفاتها، بل إنني أرى أن هذا التعدد هو دليل على غنى هذا الحدث وكثافته وقوته وقدرة القائمين عليه على حسن إدارته (ليس من الناحية التنظيمة، بل من ناحية التداول الاجتماعي والثقافي والإعلامي) واستثماره اجتماعياً وثقافياً وإعلامياً. وربما ترجع كل هذه النجاحات إلى قدرة هذا المهرجان على التصرف في (الإسكافي) بوصفه علامة ثقافية غنية بالمعنى. أي أن الأسكافي بسيرته وعمله وجهده وتاريخه صار نصاً قابلاً لتأويلات متعددة وقراءات مختلفة وتوظيفات متباينة، تماماً كما نفعل مع أي نص لمفكر أو شاعر أو مع أية آية قرآنية أو حديث نبوي أو أثر تاريخي.
سياق التصرف في الإسكافي بوصفه شخصية رسالية إسلامية، يحمل أكثر من معنى ويدل على أكثر من إشارة ثقافية تعبر عن تغير أنماط تلقي الوسط الديني لشخصياته الثمانينية، وتلك دلالات تحتاج إلى قراءة تدفع باتجاه الكشف عن ما يعتمل في هذا الوسط من تغييرات تبدو محتشمة وغير قادرة على الجهر بما تؤمن فيه. وقبل أن أتحدث عن معنى التصرف في الإسكافي، أجدني بحاجة للحديث أولاً عن سياق الثقافة الدينية التي قامت بفعل التصرف هذا بفطنة باهرة.
سياق التصرف
ولأضع قراءتي في سياقها الثقافي الأكثر اتساعاً، اسمحوا لي بشيء من الرحابة أن أسترجع حادثة ثقافية كنت أحد أطرافها قبل أكثر من سنة ونصف. بعد انتهائي من جولة سريعة على جداريات المهرجان برفقة الأخوة المنظمين سألني أحدهم: ماذا ستكتب عن مهرجاننا، فأجبته على الفور بشيء من الخبث سأكتب مقالاً أبدأه من حادثة مأتم بن خميس معي، فضحك وفهم إشارتي إلى حادثة منع محاضرتي (هل يمكن الحديث عن الحداثة الدينية من منظور علم الكلام الجديد؟) في شهر رمضان قبل الماضي، والتي أثارت جدلاً ساخناً في منطقة السنابس امتد إلى المواقع الإلكترونية .
أنا أرجع لهذه الحادثة وأحمل في داخلي حذراً مضاعفاً كي لا أقع في فخ القراءة الوظيفية التي تستخدم النصوص لمصالحها الذاتية أو الشخصية أو الأيديولوجية، فلست أريد أن أجعل من قراءتي لهذا المهرجان قراءة من يؤول الأحداث لصالح احتراباته أو مسبقاته، وإنما أرجع لهذه الحادثة لأرى من خلالها المشهد، مشهد تحولات ثقافتنا الدينية التي هي أبرز مكون من مكونات ثقافتنا البحرينية، بل هي المكون المهيمن في ثقافة عموم الناس في مجتمعنا، فبها يرون وعبرها يحكمون وحسب معاييرها يفاضلون ووفق آلياتها يصاغون. والسنابس وما يحدث فيها من فاعليات دينية وثقافية واجتماعية وسياسية تكاد تكون من غير مبالغة مختبراً لتحولات هذه الثقافة وطبيعتها ومؤشراتها نظراً لموقعها الجغرافي وريادتها والحيوية الحوارية التي يتمتع بها هذا المجتمع. لذلك لا يمكن أن نقرأ حدث هذا المهرجان بمعزل عن بقية الأحداث (حادثة نانسي عجرم والمسيرات المناهضة لبناء الفنادق في المناطق السكنية وإقامة فاعليات مخيم جنين، وقبلها حوادث التسعينيات ...إلخ)، وقد اخترت أنا حادثة مأتم بن خميس لكونه نموذجا يتوفر على بعد ثقافي واجتماعي واختلافي وهذا ما يجعل منه قريباً من أجواء هذا المهرجان بوصفه حادثة ثقافية واجتماعية مصاغة بمنظور تعددي.
ليس لأي من هذه الأحداث أن يختزل طبيعة الثقافة الدينية التي يتوفر عليها مجتمع السنابس، فحيوية هذا المجتمع واختلافه وتباين توجهاته وتعايشه رغم كل ذلك، يجعله مجتمعاً متأبياً على الاختزال في وصف واحد أو حدث واحد أو لون واحد، فهو أقرب في طبيعته إلى جدارية هذا المهرجان الضخمة التي تضج بمختلف الأشكال والمدارس والموضوعات والأجناس. من هنا فإننا حين نضع حادثة مأتم بن خميس بجوار حادثة مهرجان الإسكافي يمكننا أن نفهم حيوية الثقافة الدينية التي يتحرك من خلالها مجتمع السنابس، فالأولى بأحاديتها وضيقها من الخطاب المغاير وعدم قدرتها على تصريفه وتحويله لصالحها، كانت تعبر عن طور من أطوار هذه الثقافة ونمط من أنماطها الفاعلة بقوة، والثانية بحواريتها واتساعها وقدرتها على تصريف رموزها لصالحها تعبر عن طور آخر ونمط آخر، وكلا النمطين يتجاوران ويتفاعلان وربما يتماسان أحياناً. وربما يكون من علامات قوة حدث مهرجان الإسكافي أنه أستطاع أن يبرز هذا النمط الحواري بقوة لفتت أنظار الجميع إلى أن هناك شيئا مغاير يحدث يحسن قراءته.
التصرف بالإسكافي
كيف سيكون الأمر لو تم الاحتفاء بالإسكافي بوصفه شخصية نضالية جهادية؟ أو بوصفه شخصية أبوية يحسن التطابق معها؟ أو بوصفه أصلاً يحسن الاقتداء به واستراجعه؟ أو بوصفه داعية رسالية دينية؟
كان السؤال المقلق الذي طرحت على أحد الأخوة المنظمين لهذا المهرجان قبل شهر من بدء المهرجان هو: كيف يمكنكم أن تسوقوا مهرجاناً ثقافياً فنياً لعموم المجتمع البحريني، وهو يحمل اسم شخصية دينية عملت في الثمانينيات؟ وسياق العمل الديني في الثمانينينيات بسبب الأجواء السياسية المتوترة، لذلك فالشخصيات مهما بدت بعيدة عن السياسة ومهمومة بالتربية والدين والإعداد الروحي والثقافي، كانت تتلبسها الشبهات السياسية، وهذا ما يجعل منها في المخيال الاجتماعي شخصيات نضالية وجهادية ورسالية، ولم يكن الإسكافي بعيداً عن سياق الالتباس هذا.
كان سؤالي يعبر عن حيرة فعلية، ولم يكن يمكن تجاوز التباسات هذا السياق الذي كون صورة الإسكافي (في مخيلتي على الأقل) إلا بالخروج على هذا السياق، الذي هو بالنسبة للبحرين سياق الثقافة الدينية المتورطة في السياسية، لذلك قلت في بداية مقالي إن حدث هذا المهرجان ينبئ عن تغييرات تبدو محتشمة في سياق هذه الثقافة. من هنا يمكننا أن نتحدث عن التصرف في صورة الإسكافي بوصفه يعبر عن تغير حدث في شبكة الثقافة الدينية التي بها نقرأ العالم وأناسه وأحداثه. وإذا كان »التفكير بوصفه قراءة هو نسخ وتبديل أو صرف وتحويل« كما يقول علي حرب، يحق لنا أن نتساءل كيف تم صرف الإسكافي ونسخه.
في المعجم »الصرْفُ: أَن تَصْرِفَ إنساناً عن وجْهٍ يريده إلى مَصْرِفٍ غير ذلك، وصَرفَ الشيءَ: أَعْمله في غير وجه كأَنه يَصرِفُه عن وجه إلى وجه«.
والنسخ بالإحالة إلى مشتقات معانيه المعجمية، يتضمن ثلاث دلالات، النسخ: التغيير والإزالة والاستنساخ: تصوير نسخ مكررة، والتناسخ: الانتقال والترحال.
تم التعريف بالإسكافي في مطويات المهرجان على النحو التالي: »المرحوم الأستاذ أحمد الإسكافي، مؤلف وكاتب إسلامي، مؤسس مشاريع تعليم الصلاة في السنابس«.
يعبر هذا التعريف في جانب منه عن الشخصية الكرازمية التي جعلت للإسكافي هذا الحضور الرمزي في الوسط الاجتماعي والديني، وهذا ما جعل منه محل إجماع وتوافق، وأعطى لشخصيته ثقلاً يتعالى على الخلافات والاحترابات التي شهدتها المنطقة فيما بعد.
لقد جرى استثمار هذا الجانب الرمزي الديني في شخصية الإسكافي في حدث المهرجان ولم يتمّ التضحية به، ولكن تم تصريف رأس المال الرمزي لشخصية الإسكافي بأن أُعْمِل في وجه آخر، وهو وجه أوسع من وجه العمل الديني بمعناه المحصور في المأتم والمسجد والطائفة، هذا الوجه هو وجه الثقافة بمعناها العام الذي حمله عنوان المهرجان: »المهرجان الثقافي التراثي الأول.. مهرجان الرسم على الجدران«. هكذا صار للإسكافي وجوه متعددة بتعدد جداريات هذا المهرجان، وصار قابلاً لأكثر من تأويل، وبهذا صار قابلاً للنسخ، أي قابلاً لأن يكرّر وجه في أكثر من لوحة وجدار، وصار بالإمكان تغيير وجه وتقليبه في كل لوحة لرؤيته بمنظار آخر، وصار بالإمكان نقله وترحيله في ثقافتنا الدينية عبر هذه اللوحات كي تستطيع هذه الثقافة أن تنتقل من مواقعها الجامدة لترحل إلى مواقع أكثر حركة وحيوية لتكون بمثابة جدارية المهرجان بتعددها واختلافها.
هكذا صار الإسكافي علامة غنية، قابلة للصرف والنسخ والتحويل والتغيير، بهذا صار بإمكاننا أن نفكر فيه وبه تفكيراً، نعبر به مواقع جديدة وضفافاً آمنة وأطرافاً رحبة، وبهذا صرنا نستطيع أن نخرج على الإسكافي وعلى سياق عصره خروجاً يجعلنا أكثر وفاء له وأكثر احتفاء به وأكثر فهماً له، وبهذا المعنى يغدو الإسكافي بوصفه نصاً أو علامة إمكاناً من الوجوه واللوحات والجداريات الزاهية بألوان المعنى، ومن لا يستطيع أن يرى بحساسيته الثقافية طيف هذه الألوان لن يستطيع أن يرى حتى وجهاً واحداً للإسكافي.
من صحيفة الأيام
التعليقات (0)