حكمتان أرضيتان لا أظن أننا في مورد نسيانهما أبداً .. الأولى للزعيم الفرنسي الأسطورة شارل ديغول، والثانية للفيلسوف الفرنسي كورسيلسكي، الأول قدم نصحاً بأن لا نقرأ السياسة قبل أن نرى الجغرافيا، والثاني قالها ومضى: الخريطة ليست هي الميدان، وبين هذي وتلك تأسيس لنظام أفكار مُتحد المركز، لا يدع مجالاً للمساومة بين فروق حاستين... السمع والبصر. لقد قادنا أحد مشروعات جمعية الإسكافي لتجميل البحرين الفنية لزيارة العاصمة الدبلوماسية للعالم ومربّعه النشط للمنظمات الدولية ومفارزها، مدينة جنيف، التي وعلى رغم أن ساكنيها لا يتجاوزون 167,700 (نصفهم من الدبلوماسيين وطواقمهم) وليست لها منافذ بحرية فإنها مترعة بالجمال الأخاذ وبالوهج الفوسفوري الآسر، وبالمعالم التاريخية والطبيعية المسحوجة كالحرير، ربما لأن فوهات مدافع دول المحور والحلفاء لم تطلها بشكل مُدمر خلال الحرب الكونية الثانية (1939 1945) على رغم أن الكونفدرالية السويسرية (41,285 كم) الواقعة وسط أوروبا الغربية تتجاور مع كل من ألمانيا وفرنسا وايطاليا والنمسا وليختنشتاين، وهي بالتأكيد المفاعيل الحقيقية للحرب المذكورة .
صحيح أن جنيف (أو جنيفا كما يُسمونها في الغرب) تكبرها مُدن سويسرية أخرى كزيورخ وبازل، إلاّ أنها احتفظت بمكانتها كمدينة عذراء آمنة تضم في أحشائها قصر الأمم المتحدة العارم والباقة الدولية الأخرى، كالصليب الأحمر الدولي ومكتب العمل الدولي ومنظمة الصحة العالمية واتحاد المواصلات الدولية ومفوضية اللاجئين واتحاد البريد العالمي، لدرجة أنك عندما تسير بين أفاريز شوارعها الغارقة في النظام تلحظ بشكل لافت حجم الوجود الرسمي فيها، فاللوحات المعدنية لسيارات البعث الدبلوماسية فاقعة في حظورها ونشاطها الدؤوب .
النظام السياسي
نظام الكونفدرالية السويسرية يبدو غريباً (ونادراً) في تركيبته السياسية، فهو يتشكل من بطون إدارية متعددة تُسمى كانتونات ويبلغ عددها ستة وعشرين كانتوناً تعيش في أحشائها ثلاثة آلاف بلدية وكومون، ولكل من تلك الكانتونات دستور خاص ونظام سياسي متكامل بسلطاته الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية تتسق في نهاية الأمر مع النظام الفدرالي العام للدولة. وتتقاسم تلك الكانتونات أربع من اللغات وهي الفرنسية والألمانية والإيطالية والرومانتش، سبعة عشر كانتوناً يتحدث اللغة الألمانية بل وإن ثلاثة من كل أربعة سويسريين يقطنون الأحياء الناطقة بالألمانية، أما اللغة الفرنسية فيلوكها سكان المناطق الغربية (الروماندية) من الكونفدرالية السويسرية، بمجموع أربع كانتونات، أما اللغة الإيطالية فيتحدثها سكان كانتون واحد وهو تيتشينو، مع بعض أطراف جراوبوندن الريفية، في حين يعيش كانتون جراوبوندن أسيراً للغات الثلاث الإيطالية والألمانية والرومانتشية، التي لا يتجاوز مستخدموها سوى واحد بالمئة من مجموع سكان الكونفدرالية السويسرية. إلاّ أن اللافت هو أن جميع الكانتونات الستة والعشرين تستخدم ذات الشعار (الصليب الأبيض) رمزاً لها، كما أن النشيد الوطني الذي كتبه ألبيريك سفيسيك قبل مئة وسبعين سنة يحتوي على فقرات صِيغَت بتوليفة لغوية رباعية (الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانتيشية) إرضاء لجميع الفرقاء المتشاركين في الكونفدرالية. وبطبيعة الحال فإن هذه الجمهورية الاتحادية التي لا تتجاوز مساحتها 41,288 كم؟ وبأنفس لا تزيد عن 6,800,000 نسمة بقيت علامة بارزة في القارة الأوروبية، ونقطة التقاء دولية مجمع عليها، حينما تصطك الأسنّة بين الغُرماء كما حدث ذلك إبان الحرب العالمية الثانية، وما آلت إليه البلاد السويسرية من صيرورة واجبة تتلقى الرفات والجرحى، ومضبطات الأسرى وتشرف على أمور التسوية بين المتحاربين .
الإسكافي في جنيف
تستغرق الرحلة من مطار أبوظبي الدولي إلى مطار جنيف الدولي نحو خمس ساعات ونصف، وقد وصلنا إلى جنيف في تمام الساعة السادسة وعشر دقائق من صبيحة يوم الخميس على متن إحدى أسطول طيران الاتحاد الناقل الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة، ولأن إجراءات المطار لا تستغرق سوى ثلاث دقائق فقد غادرنا باحة المطار بمعية أفراد من البعثة الدائمة لمملكة البحرين لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف/ فينا الذين حضروا باكراً لتخليص أمورنا، وقد كانت برودة الجو في الخارج تطحن العظام، إلاّ أن الأشجار الممشوقة وآجامها المبللة بقطرات الندى ومن بقايا الثلج الدائب تُنسيك أي شيء آخر، وصلنا إلى الفندق المسمى لنا قبلاً في وسط المدينة الهاجعة في نوم بدا حسيراً لقرب بدء مواعيد العمل التي عادة ما يبدأ عند الساعة التاسعة صباحاً. وبعد أخذ قسط من الراحة ذهبنا لمقابلة المندوب الدائم لمملكة البحرين لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف/ فينا السفير عبدالله عبداللطيف عبدالله الذي كان كريماً جداً معنا، ولم يبدِ ما يشير إلى غير الترحيب ودماثة الخلق، مستمعاً بإتقان لشرح مسهب من الوفد عن أنشطة جمعية الإسكافي لتجميل البحرين وأهدافها التي أبدا تجاهها تفاعلاً بحديثه المُترع بالإعجاب والتقدير، وقد غادرنا مقر البعثة على أن نلتقي في المساء لتناول وجبة العشاء التي أعدّها السفير خصيصاً لنا بأحد المطاعم الشرقية، تفادياً لأي منغصات قد تبديها نزعاتنا الشرقية .
قبل رجوعنا إلى مقر الإقامة، كان السفير «أو كما كان يحب أن نناديه (أبومحمد)» قد أوصى الملحق الدبلوماسي بالسفارة عمار بن رجب أن يأخذنا إلى حيث يودّ الوفد أن يذهب، فاتفقنا على أن تكون السوق هي هدفنا الأول وخصوصاً أنها تحوي بين جنباتها معالم جميلة ويُغطيها سقف وهمي مفتول بأسراب طيور غير كاسرة تتزاحم بالمناكب فيما بينها لنيل مكان تحط فيه، كانت السوق تعجّ بالمتبضعين وهواة التسوق والفضوليين، وكانت أكثر المحال التجارية التي شاهدناها هناك تمتهن بيع الساعات السويسرية الفخمة غالية الثمن والمحصنة بمزاليج ومتاريس أنيقة تقيها من أي محاولة سطو أو احتيال، قد يلجأ إليها فاقدو الرشد والأدب من غير البشر الأسوياء، وبطبيعة الحال فإن صناعة الساعات في سويسرا تبدو حرفة شبه أزلية بالنسبة إليهم وهي غير خافية على أحد، وهي تُعد إحدى مناشط التجارة والصناعة في سويسرا وبالتحديد مدينة بازل، فقد بلغت مبيعات مجموعة سواتش العملاقة للساعات وحدها 4,497 مليار فرنك سويسري خلال العام الماضي، وهي واحدة من 4000 شركة تُغذي اقتصاد البلد الذي يتمتع بوشائج تجارية أخطبوطية مع دول العالم كافة، وقد وصل الدخل القومي قبل 6 سنوات إلى 17,335 مليار فرنك سويسري الذي يُقارب في قوته الدولار الأميركي، وتشتهر سويسرا بقدراتها العالية في مجال الهندسة والأجهزة الدقيقة والكيماويات والنواحي الطبية (وصل مجموع الصادرات الطبية 35,511 مليار فرنك سويسري العام الماضي) والساعات والمواد الغذائية المتحصلة من زراعة الحبوب والقمح والبطاطا والشمندر والسكر والفواكه والخضر وتربية البقر والغنم والخنازير والدواجن والنحل، إلاّ أن الأكثر أهمية في اقتصاد البلد هو في مجال المصارف الضخمة والمصارف (وصلت أرباح بنك يو بي إس لوحده 14,03 مليار فرنك العام 2005 باستثمار بلغ 2652 مليار فرنك ،) والتأمين، بالإضافة إلى صناعات الخمور والخشب والورق والسجائر، أما السياحة فتعتبر مصدراً حيوياً للدخل القومي وخصوصاً أن الريف السويسري يسحر بجماله، وبما تُشكله جبال الألب في الجنوب، من استقطاب للسياح، إذ يبلغ متوسط ارتفاعها 1700 متر، بالإضافة إلى وجود مئة جبل تزيد ارتفاعاتهم على 4000 متر وهناك 1800 نهر جليدي لهما من ناصع البياض ما كأنه القطن، والأودية العميقة المتشربة من أنهر رون، رين، آر، تيس وروس التي تنبع جُلّها من سان غوتار، ويلفها مناخ بارد بثلوج دائمة وأمطار غزيرة. في سويسرا هناك بحيرة جنيف أو ليمان المتاخمة لجمهورية فرنسا (582 كم) بعمق 310 أمتار وارتفاع 372 متراً وطول يبلغ 72 كم، وهناك بحيرتا زون ولوسيرن اللتان تتغذيان بالمياه المنسكبة من أعالي الجبال، وهناك التمثال الصخري «ليون مونامنت» وقلعة تشيلون المطلّة على مونتريكس ودنتس دو ميدي ومنتجعات زيرمات، وسكك الحديد الشاهقة في جورنارجرات (10272 قدماً) وسكك جلاسير التي باتت أحجية يومية في الذاكرة السويسرية .
ما تلاحظه عند زيارتك لجنيف هو الغلاء الفاحش، فليس غريباً أن تشتري قنينة ماء مع ساندويتش أسطواني (شاورما) بأربعة دنانير، وهو أمر لا يعود ضرره على السائح أو المقيم فقط بل حتى على المواطن السويسري الذي وإن كان يتقاضى راتباً فلكياً إلاّ أن نصفه يُقضم بفضل متطلبات الضرائب والتأمين، أمر آخر يُمكن أن تلحظه هناك وهو أنه وعلى رغم ذلك الغلاء الفاحش فإنه لم يحل دون قدرة الأثرياء العرب على تملّك الكثير من العمارات والأبنية الشاهقة والفنادق الفخمة مثل لي برج وريكس ومحلات المجوهرات والسوبر ماركت، من دون أن يؤثر ذلك على استراتيجية الدولة في الحفاظ على السلم الاقتصادي والقدرة على إبقاء نسبة البطالة بين السويسريين في حدود 3,2 في المئة. والسويسريون لا يبدون استياءً من ذلك البتة إلاّ أن ما يُقلقهم هو ما أحدثته الهجرة الشرقية من إخلال بالتوازن الاجتماعي والأمني، فالبلد كان ينتظم وفق مسارات غاية في الإتقان والانضباط، ومستوى الجريمة متدن إلى الحد الذي لا يقلق، بعض المحال التجارية كانت في السابق تترك أبوابها مشرعة للمتبضعين الذين يشترون ما يحتاجونه ويضعون أجره في المكان المسمى داخل المحل، وبعد تصاعد الهجرة من دول البلقان وشمال إفريقيا ووسطها بدأ هؤلاء الوافدون باستغلال ذلك التسامح والاحتيال على ثغرات القانون، فعمدت الحكومة الفدرالية إلى تشديد الإجراءات وتعديل بعض القوانين، ثم إن المواطن السويسري بدأ يحنق على الوضع الجديد وعلى المهاجرين الذين يحمّلهم مأساة ما حدث، على رغم أنه شعب لا يعرف معنى العنصرية بأي شكل تأتي .
في اليوم التالي لإقامتنا في جنيف وهو يوم الجمعة الموافق 10 مارس الماضي كان لنا موعد حاسم مع المدير العام لمكتب الأمم المتحدة بجنيف سيرجي أوردزنا كيدزي أعدّ له بشكل مُحكَم المبعوث الدائم لمملكة البحرين لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف / فينا السفير عبدالله عبداللطيف وذلك في جو مملوء بالرسميات المُخفّفة لتقديم اللوحات الفنية الست التي أنجزتها الجمعية في سبتمبر / أيلول الماضي بمناسبة مرور ستين عاماً على إنشاء منظمة الأمم المتحدة، بعد ترتيب إجراءات الدخول من قبل مرافق الوفد عمار بن رجب أخذتنا سيارة البعثة إلى فناء قصر الأمم المتحدة الضخم حيث جلسنا نحتسي الشاي في إحدى ردهاته الفارهة لحين مجيء موعد اللقاء، بعد ساعة تقريباً جاء الإذن لنا بالصعود حيث مكتب المدير العام، صعدنا السلّم الكهربائي وانتقلنا إلى الضفة الأخرى للقصر إذ استقبلنا في البداية مدير الأنشطة الثقافية بمكتب الأمم المتحدة بييغ لولواغيه الذي بدا حديثه متزناً ورسمياً ومحسوباً أيضاً، وبعد انتهاء مراسم الاستقبال قُدِّم إلينا مدير مكتب المدير العام وهو بالمناسبة عربي الجنسية وأخذنا حيث كيدزي الذي بدا متماسكاً في جسد مصاغ، ومبسم فضي ووجنتين قاسيتين، نظر إلينا بعيني باشق، ثم حيّانا بحس مسرحي واحداً بعد الآخر واتجه صوب إحدى اللوحات الفنية الست مشيراً إلى خرمشاتها المنحوتة بأجزائها العُلوية يسأل حيناً ويعلّق مبتهجاً حيناً آخر، وفي أثناء ذلك تداخل حديثه بحديث للمبعوث الدائم للمملكة (أبو محمد) الذي قدّم هذا المشهد الكرنفالي بطريقته المهذبة المغطّاة بمهنية سميكة تعكس خبرته وقدرته على إدارة الأمور كيفما اتفقت «إنها هدية تُقدمها مملكة البحرين لمكتب الأمم المتحدة في جنيف» قالها وترك التعليق لكيدزي الذي قال «ونحن نقبلها شاكرين لمملكة البحرين هذه اللفتة»، وبينما الحديث يدور كانت إحدى موظفات المكتب الإعلامي للمدير العام تملأ المكان بالضوء المنبعث من كاميراتها الضخمة لأخذ صور تذكارية. اللوحات الست التي قدمتها جمعية الاسكافي لتجميل البحرين باسم مملكة البحرين ستوضع إذاً في مقر الأمم المتحدة بجنيف وهي حقيقة فرحة توازي فرحة الفنان السويسري والعالمي الشهير هانس ايرني عندما دشّن معرضه الفني في قصر الأمم المتحدة بمناسبة انضمام سويسرا إلى المنظمة الدولية. لقد أصبحت أسماء ستة من الفنانين البحرينيين الآن مُثبّتة في قصر الأمم المتحدة، إيمان أسيري، جابر حسن محمد المهدي، حسين الساري، حسين فتيل، عقيل حسين، يحملون جميعاً شعاراً حياً بشعوره النابض «السلام العالمي غايتنا» ترميزاً للانتصار إلى السلام ضد الحرب والدمار، وانتصاراً لحق الإنسان في العيش بكرامة مُقدّسة لا تخضع لمقتضيات السياسة والمصالح .
ومن هنا فإن جمعية الإسكافي لتجميل البحرين تنتهز هذه الفرصة لتسجل الشكر الجزيل لوزارة الخارجية وعلى رأسها وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة على ما بذله من جُهد وفير لإتمام هذه الفعالية الوطنية، والشكر موصولٌ أيضاً للمبعوث الدائم لمملكة البحرين لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف / فينا عبدالله عبداللطيف عبدالله على ما قدّمه من تسهيلات جليلة وضيافة أصيلة واستقبال ورعاية ممنونة، الشكر مرة أخرى لإخواننا الفنانين الأعزاء الذين ساهموا بفنّهم وجُهدهم من أجل إبراز هذه اللوحات الفنية المقدّمة كهدية باسم مملكة البحرين لمكتب الأمم المتحدة بجنيف، والشكر الجزيل لشركة ألمنيوم البحرين (ألبا) وشركة طيران الاتحاد الناقل الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة على دعمهما لأنشطة الجمعية وبالتحديد فعالية «السلام العالمي غايتنا» وهما بذلك جسّدا مدى حرصهما على دعم الأنشطة الوطنية والأهلية فـي المملكة .
التعليقات (0)