شارك هذا الموضوع

وجوه العاطفة في الأدب الحسيني

لم تستحوذ واقعة على ألباب الناس كما استحوذت واقعة الطف ...وإن لها حرارة لا تبرد ولاتكاد تفتر ولا تفتأ العواطف ميالة لها كلما مر ذكرها ... وفي وقائعها أحداث جسام تأسر العاطفة وتستخرجها من أعماق النفس بارزة بصورة من صورها ... وإذا أدركنا أن العاطفة هي ميل وشفقة وحنوّ ورقّة وأن مركزها القلب ....وتبرز وجوهها في صور متعددة ...بعد هذا لا يضيرنا أن نقلّب القصائد ظهراً لبطنٍ باحثين عن هذه الوجوه للعاطفة .... وجه القلب :
أول وجه من وجوه العاطفة ومركزها الأول القلب ... هذا الوجه هو المغذي لباقي الوجوه التالية ...منه شرارة وغليان العاطفة ...فاسمع الشاعر علي غريب يقول :
قلبي يبقه حتى الموت حزنه
هذه العاطفة القلبية الأبدية تجعلك توقن بسر إلهي يجعل القلوب مندفعة مشتاقة للارتباط بهذا الحزن الخالد ... وهي عاطفة حزن تختلف عن الأحزان العامة ... إنه حزن يأنس به صاحبه ويرى في بقائه رغبة يتمناها ويتوق لها ... ومرة أخرى يتوجه الشاعر لإبراز هذه العاطفة في نمط آخر فيقول
ذابت مهجنه في مراثي الغاضرية
حين نعرف أن المهجة هي دماء القلب نعلم مدى حجم هذه العاطفة ...يريد الشاعر أن يطلعنا على عاطفة منصهرة في رثاء الحبيب الحسين(ع)فضلا عن الانصهار فيه ... هذا النمط من الاستعداد العاطفي لسكب مهجة النفس في نظم وإنشاد الرثاء مرحلة هيام كربلائي ...وللشعراء في هذا الوجه صور متعددة متنوعة ... وهم لا يسأمون من الجهر بعواطفهم تجاه مأساة كربلاء أو رسم وقائعها بأجلى صور العاطفة ... فاسمع الشاعر سيد ناصر العلوي :
فاقتلعت زينب قلبها
تقذفه على الثرى الطهور
تمكن الشاعر من النفاذ إلى أقصى مكامن الشعور لدى الأخت الثكلى فرآها تقتلع القلب حين رأت قلب أخيها مصابا ...رأت في انتزاع قلبها مواساةً تليق بأخيها ...ولابد لها من أن تلقيه قذفا مقاربا لتوأم حياتها...بمثل هذا المشهد نلمس حجم القدرة الأدبية في استخراج ملامح العاطفة ... ولا يفتأ الشاعر نفسه يفاجأنا بتدفق خياله في مجاله العاطفي :
إن الرضيعَ مزقوا فؤادَه
أتدري ماحالُ فؤادِ المُرضعة
اللوحة التي يحاول أن يرسمها الشاعر لنا هي مساحة بين فؤادين ممزقين ...فؤاد طفل خنقته نبلة سهم فاستلت الحياة من شرايينه تمزيقاً وارتدّ الأثر على فؤاد الأم ...بينما الشاعر لا يخبرك ماحل بفؤاد الأم مكتفياً بفطنتك سائلاً عن حال فؤادها ...وللعاطفة أن تضرب بعصا خيالها لتظهر حجم الألم القاطن في فؤاد الأم المرضعة ...
وعندما كانت واقعة الطف مترعة بالشجى ترى شعراءها ينسجون أفكارهم من منبع عاطفي تامّ الصفاء ... الشاعر نادر التتان يتحدث بلغة العاطفة النافذة فيقول :
اخذ من قلبي يبني باقي صبره
فالوالد أو الوالدة تفتح قلبها متوجعا على فلذته ليأخذ برفقته ثمالة صبره ليضمه إلى حفرة المصرع ...ولعمري إنها صورة فياضة بالعاطفة المشبعة بالحسرة والتوجع ... وجه الشعور:
وللعاطفة وجه آخر يتجسد خارج القلب فهو تارةً تجد تجسيده عابراً الأنفاس واستمع بأذن قلبك للشاعر علي فضل يقول :
والمحن صارت يخويه تجري بانفاسي
هذه المرة جردت العاطفة سيف جبروتها وأصبحت تعبر الأنفاس متكئةً على المحن جرياً لا مشياً وهي تبعث نفثة الجرح من تدفق الأنفاس ... وتختلف دقة الحصول على وجوه العاطفة من شاعر لآخر ... فشاعر آخر يصورها لك في اختناق بصور الموت وأسرٍ بالهم والشجن مما يثقل الروح ... الشاعر حسين حبيب له هذه الصورة :
مخنوقة بطيوف الأجل
ماسورة بالهم والشجن
وأي عاطفة لا تفيض أمام هذه الصورة المشبعة بالموت وإن لم يكن بالموت فبالأسر وإلا فالهم والشجن حاضران بالمرصاد ...أحيانا يمزج الشاعر بين العاطفة والفكرة فيقدم لوحة رائعة الألوان كما فعل الشاعر علي غريب :
يحسين اذوب انا ابعظم قدرك
من دهري خذني سيدي الدهرك
قفز الشاعر بالعاطفة بين الأزمنة صانعا من ذوبانه وسيلة للعبور إلى عصر الحسين ...ولا يكون هذا إلا بالانصهار عاطفياً وكيانياً في عظمة وجلال الحسين ..وترى في النص وجه الشعور العاطفي جياشاً ...وكما تتنوع القدرات الأدبية تتنوع الاختيارات فالشاعر الدكتور إسحاق محمد يبري قلمه لتصوير ليلة عاشوراء :
زينبُ في الخيامِ في الليلةِ الأخيرة
قد عانقت أخاها بالدمعةِ الكسيرة
عبرالشاعر إلى ضفة الليلة الأخيرة مصوراً لحظة الوداع والشعور بصدمة الفراق الأبدي ولحظة انهراق الدمعة المنكسرة بخوف وحصار وفراق وموت ... وجه النظرة:
وللنظرة وجه عاطفي مفعم بالأثر الموجع ... وللنظرات إحساس بنظرات تحاكيها ...كما قال الشاعرعلي غريب :
احس من نظرتك نظراتي خجلانه
هناك نظرة مفردة تسيل عاطفة استطاعت أن تبعث الخجل في تراكم نظرات واستطاعت أن تتغلغل في ثنايا الصدر خجلاً وحياءاً... وهكذا تتعدد مشاهد النظرات العاطفية ... بينما عند الشاعر علي فضل رؤية أخرى :
هلت منهم الدمعاتُ في حزنٍ
ظلوا ينظرون البعضَ واحتاروا
مشهد عاطفي يصوره بين الأنصار ومولاهم الحسين .... حين يبيح لهم الرجوع عن نصرته وهم ينتظرون لحظة نصرته في هذا اليوم على أحر من اللظى ...انطلقت نظراتهم في نفير طارئ ... تتلاقى مع بعضها في حيرة ...تقرأ الموقف وتتواصى إصراراً على عدم الرجوع ... بينما القلوب تعتصر مواساةً لسيد الأحرار ... وليس هذا وحسب وإنما تبادر الدموع من أعينهم استهلالاً مدفوعةً بالنظرات مشتاقة إلى المواساة ... هذه بعض الوجوه المتحصلة في الأدب الحسيني وبالطبع هناك كثير من الأشباه والوجوه التي لو نصبنا شباكنا الأدبية لها لاصدناها... يُسعدُني أن تنشروا


عبدالشهيد الثور -5 سبتمبر 2017م

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع