شارك هذا الموضوع

الطلاق الأخطر!!


ينصرف الذهن حين سماع لفظ الطلاق إلى ذلك المعرَّف شرعاً بأنه: (رَفْعُ قيد النكاح المنعقد بين الزوجين بألفاظ مخصوصة)، وربما يخفى عن البعض أن هناك نوعاً آخر أشد وطأة على الأزواج والأولاد معاً، لكن غفلة اجتماعية كبيرة تكاد لا تأتي على سيرته فضلاً عن تناوله ومعرفة أسبابه ومساعدة ضحاياه ألا وهو (الطلاق العاطفي).. وأعني به طبيعة المشاعر الباردة أو المنعدمة بين الزوجين دون انفصالهما رسمياً، فتراهما متعايشين تحت سقف واحد يتقاسمان تفاصيل الحياة ولكن بدون رحمة ولا مودة بينهما.
ومن مظاهر هذه الحالة التفكير المستمر في الطلاق أو زواج الرجل من أخرى، الانعزال المكاني، شيوع الصمت وضعف لغة الحوار والتواصل، غياب الاحترام والرفق وشيوع العناد والشجار والسخرية والتقليل من شأن الآخر وجرح مشاعره، وكذلك الإهمال والأنانية واللامبالاة باحتياجات ومتطلبات وآلام الشريك..الخ
هؤلاء دائماً ما يُشعِرون أنفسهم بالندم على الارتباط، وينظرون إلى الأبناء على أنهم السبب الذي يربطهم، أو يعزون تجرع مرارة الحياة الزوجية خوفاً من الحالة الاجتماعية التي ستدون بورقة الطلاق وما يمكن أن يترتب عليها في الأعراف الاجتماعية من كلام الناس أو مآلات حضانة الأولاد أو أمور أخرى.
البعض الآخر يدخله في هذه الحالة قلةُ وعيه وسيطرة العُرْف على طريقة تفكيره، فتراه يدخل نفسه في سن التقاعد العاطفي تحت مبرر العمر ويردد عبارات مثل: لقد كبرنا على الحب، أو لنترك التعبير عن هذه المشاعر لأولادنا، إلى أن تتبلد أحاسيسه فعلاً فيصعب إعادة حيويتها مرة ثانية حيث لم تعد مألوفة للطرفين.
إن من النتائج الحتمية لهذا الوضع تولد الكراهية لدى الطرفين معاً وبخاصة الزوجة لما لها من تكوين نفسي خاص، فهي تصبر على الزوج وتتحمل علاته وأذاه وفقره وتقصيره وتقتيره مادامت محبة له، إلا أن تلك المحبة تنقلب -حينما يتمادى الزوج- إلى نفرة شديدة تستحيل معها العشرة الزوجية.
وكمؤشر ومثال على ذلك فإننا نرى الزوجة تفتدي نفسها بمالٍ يفوق قدرتها، بل وتلجأ للقرض العسير أحياناً، وفوق هذا وذاك تتنازل عن مؤخر صداقها ونفقاتها وكل الحقوق المالية التي لها في ذمة الزوج، كل ذلك لأجل الخلاص من هذا الميثاق الذي أبرم ليبقى غليظاً لكنه لم يصمد.
إن من الكوارث الناجمة عن ذاك الحال جبر الطرفين للجفوة العاطفية بخيانات خارج إطار الزوجية، أو لجوء الأزواج إلى علاقات زوجية لكنها متعددة وسرية كتعويض عن الفراغ العاطفي والجنسي، خاصة وأن بعض المعروض أمام المحاكم الشرعية يبعث على الاستغراب فعلاً، حيث تصل بعض حالات الهجر عموماً والهجر عن الفراش خصوصاً إلى شهور وأحياناً إلى سنوات، ما يجعل الطرفين يقيمان علاقات أخرى تحت عناوين متعددة لم يعد الحصول عليها شيئاً صعباً في هذا الزمن الذي كثرت فيه التحديات، وتضاعفت فيه وسائل التواصل وتشكلت وتسهلت إلى الحد الذي لا يعجز أي شخص أن ينال من الشهوات ما يريد ويشتهي إن لم يكن لديه وازع ديني يرده، ورقابة ذاتية على نفسه، ومحيط اجتماعي يقيه الانحراف وارتكاب المحرمات.
إن العديد من تلكم المشكلات قابلة للحل إذا امتلك طرفاها الشجاعة قبل كل شيء في وضع أرجلهم على بداية طريقه؛ إنهاءً لحالة السلبية المتمثلة بترك الأمور للزمن دون تحريك ساكن إزاء هذا الخمول في العلاقة الزوجية، وذلك بعرض المشكلة على المختصين من ذوي الخبرة والأمانة وحفظ السر، وممن يظهر الحرص على عِرْض الأسرة ومصلحتها وتماسكها، ثم بإظهار الاستجابة لإرشادهم ونصحهم وتثمين استشارة المختص المتصف بما تقدم.
إن ما وصفته من حال بعض الأزواج والزوجات لا يخرج عن كونه سلوكاً، ومعروف عن السلوك أنه نتيجة لطريقة تفكير معينة، ولتغييره نحتاج إلى تصويب التفكير أولاً، من خلال طرح المشكلة على المختص من كل زواياها وأبعادها وأسبابها ومسببتاها بصدق ودون انتصار للذات بالباطل، ثم على الأخير تلمُّس طرق الحلول التي قد تكون إبداعية بحيث تفتح آفاق الطرفين إلى ما لم يتوصلا إليه أصلاً، وأحياناً يحتكم إلى الشرع والقانون في الحقوق والواجبات فيذعن الطرفان لهذه اللغة، وأحيان ثالثة تكسر سلبية الطلاق العاطفي بالطلاق الفعلي كحل من باب "تسريح بإحسان" كما نصت عليه (الآية 229 من سورة البقرة).
وفي المحصلة النهائية من الخطأ ترك الحال على ما هو؛ لأن الزمن عنصر محايد يقطع مسافاته بغض النظر عن حركتنا أو جمودنا نحن عند تعاطينا مع شئون الحياة من حولنا، ولذا فإن الزوجين اللذين يعانيان من مشكلة ويتخذان من الصمت والتأجيل الغير مبررين وسيلة لسترها لا يدركان -عملياً- أن الزمن يسير عنهما بغير انتظار وتفوتهما في الأثناء كثير من الفرص تؤهلهما إلى حياة أفضل، ولذا لابد من اتخاذ خطوة جريئة شجاعة باتجاه الحل.
إن ما نذكره من مشكلة توصيفاً وأسباباً وعلاجاً ونتائج ليس من نسج خيال أو استعارة من عالم افتراضي، وإنما كل ذلك من واقع محسوس نتلمس وقائعه أولاً بأول ونشهد مشكلاته دون وسيط في نقلها، ونعاين آلام أصحابها وضحاياها من الأزواج والزوجات، وانعكاس ذلك على عموم الأسرة وبخاصة الأولاد وهم الحلقة الأضعف فيها.
ياسر خميس
باحث شرعي بمكتب التوفيق الأسري بوزارة العدل والشئون الاسلامية

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع

جميع الحقوق محفوظة لحسينية الحاج أحمد بن خميس 2016م