شارك هذا الموضوع

حكايات في ذكرى الإنتفاضة الشعبانية وقصف المراقد المقدسة

تعددت الحكايات عن الانتفاضة الشعبانية التي شهدها العراق العام 1991 بعد انتهاء حرب الكويت ودخول القوات الأميركية الى العراق وانسحاب الجيش العراقي وملاحقته في كل الجهات.. الاراء لا تختلف في التفاصيل، بل تختلف في اللحظات وبعض الامور الدقيقة والشخصيات وكل له زاوية نظر ممكن ان تكون مدخلا لها والسبب يعود لأنها حركة بدأت بلا تخطيط وبلا قيادات سياسية كما يبدو للكثيرين، او هي من خلال تحركات اثارتها اللحظة التي ثار فيها البعض لتكبر كرة الاحتجاج وتتدحرج من الجنوب صعودا الى بغداد في كربلاء المحافظة التي تصادف نهاية الانتفاضة وقمعها هذه الايام شهدت الكثير من العنف والمواجهات.
قد تبدو في وضع اخر لان هناك من كان يخطط بعد ان كانت المحافظات الجنوبية الاخرى قد تحركت ارضها واشتعلت في كل عام حين تمر الذكرى نبدأ بالبحث عن المشاركين لنحصل على معلومات إلا ان احد المشاركين فيها وضع كتابا عن الانتفاضة الشعبانية ربما قرأ بشكل جيد الاسئلة المثارة وأراد ان يضع اجابة داخل الاطار، ربما لا تتسع اللوحة الكبيرة كلها..كما يقول المؤلف وهو الباحث والإعلامي عبد الهادي البابي في مقدمة الكتاب انه يعترف ومعه الكثيرون بأنه لا يمكن لأحد أن يلم إلماماً كاملاً بأحداث الانتفاضة الشعبانية وتفاصيلها الدقيقة، ولكن كان لابد لي من وقفة أثبت فيها وجهة نظري واسترجع فيها الأحداث التي مضت.
"حكاية الضابط الموصلي"
يقول البابي كان الزمان هو الثلاثاء الخامس من آذار العام 1991، حين بدأت الانتفاضة في كربلاء التي شهدت العديد من الحكايات خاصة خلال ايام تطهير المدينة من البعثيين وأطلقنا سراح العديد من السجناء، وسقطت المدينة بالكامل بيد المنتفضين وما كان من حسين كامل إلا ان يشرع بدباباته لاقتحام المدينة والمرقدين المقدسين، وهنا الحكاية كما يقول البابي في كتابه ان حسين كامل امر ضابطاً من أهل الموصل برتبة مقدم كان يقود رتلا متقدماً من دبابات الحرس الجمهوري بإطلاق النار على الحرم، ولكن الضابط رفض ورد على حسين كامل بأننا أهل الموصل لنا تقاليدنا المعروفة في احترام المساجد، وهذا المرقد بغض النظر عمن يرقد تحته ما هو إلا مسجد من مساجد الله، فما كان من كامل إلا أن اعدم الضابط الموصلي بإطلاقة من مسدسه وعلى مساعده ايضا الذي رفض هو الاخر تنفيذ الاوامر وكان برتبة رائد.
"ما حكاية التابوت؟!"
كانت المدينة هادئة يقول البابي، المحال مفتّوحة والأسواق عامرة ..وليس هناك ما يشير الى نوع من أنواع التمرد أو الاعتصام أو التظاهر ضد السلطة الظالمة، إلا ان الساعة الحادية عشرة من صباح الخامس من اذار كانت لقاءاتنا وحواراتنا السرية تتركز على ان الوضع في العراق يسير باتجاه المجاهدين بدءا من البصرة والناصرية والعمارة، وحتى في السماوة وكانت الاذاعات تؤكد ذلك وكانت الجموع داخل الحرم الحسيني تؤكد ان المجاهدين يستعدون رغم ان الخوف كان مستحكماً في نفوس الناس.. ويضيف، كنا مجموعة من الاصدقاء اجتمعنا في بيت احد الاخوة وهو (أبو سجاد) فصحنا معا ( الله أكبر ... الله أكبر ) وتحول المكان الذي اجتمعنا فيه الى مقر عمليات حقيقي.. فوضعنا مجموعة من الخطط المستعجلة وناقشناها بدقة وكانت المهمة الكبيرة هي كيفية ايصال السلاح الى الحرم الحسيني فجاءت الفكرة أن نضع مجموعة من السلاح في تابوت وندخل به الى صحن الإمام الحسين (ع) ثم نقوم بقتل أو أسر أفراد الأمن والسيطرة على مذياع المئذنة، ومن هناك نذيع البيان الأول لأهالي كربلاء.. استحسن الجميع هذه الخطة وبدأ العمل فعلا، وقبل صلاة المغرب صارت لدينا مجموعة من البنادق من نوع كلاشنكوف وعدة مخازن ورمانات يدوية وثلاثة مسدسات واحضرنا تابوتاً وصنعنا جنازة من الإسفنج ووضعنا في داخلها ثماني بنادق نصف أخمس مع ست رمانات يدوية ومسدس واحد ، ثم هيأنا سيارة (لاندكروز ) مع ثلاث سيارات تنقل بقية المجاهدين الى قرب الصحن الشريف وكانت الخطة تقضي بدخول مجموعة الجنازة لقتل عناصر الأمن وضابط المخابرات الموجودين في غرفة الضيوف في الصحن الحسيني، ومجموعة اخرى مكونة من ستة أفراد تصعد على سور الصحن الشريف وتأمين الأبواب من دخول أي قوة معادية ومجموعة اخرى مكونة من ثمانية مجاهدين عليهم التواجد في النقاط المهمة التي وضعت حول الصحن الشريف ، أثنان منهم في باب الحسينية الطهرانية وأثنان في باب مقام التلة الزينبية واثنان قرب مكتبة السعادة واثنان قرب محل حلويات الشاكري.
ويقول إن هذه الخطة في صباح الخامس من اذار تأخرت قليلا لان اخبارا غير سارة وصلتنا من أن قوات الأمن والمخابرات طوقوا الحرمين وأغلقوا الأبواب جميعا سوى باب واحدة للصحن الشريف وهم يقومون بتفتيش كل الداخلين حتى الجنائز ينزلونها ويقومون بفحصها وتفتيشها ..ثم بعدها وصلتنا اخبار سارة تقول ان المعارضة دخلت كربلاء من جهة النجف وقد انهزم المحافظ (غازي الديراوي) باتجاه حي البعث مع حمايته ..حينها سمعنا اصوات الرصاص والتكبيرات .لتبدأ بعدها الانتفاضة بكل تفاصيلها.
"حكاية أسير من بعقوبة"
كان الجميع يكبر كما يقول البابي، وفرح خاصة كلما جئنا بأسرى من أزلام النظام، ولكن كانت هناك أسئلة خطيرة تدور في بالي وهي: هل لهذه الانتفاضة الشعبية قيادة أم لا؟ وهل هناك تنسيق بين المجموعات الجهادية؟ لأنني لم أر أي تنسيق بين المجاهدين ولم تكن هناك إتصالات بين المجموعة المجاهدة في مناطق وقواطع المدينة فكل جهة حين تؤسر احدا مثلا لا تعرف اين تأخذه وحين يكون لديها غنائم كذلك.. فمثلا في اليوم الثالث صادفنا رتلاً من السيارات العسكرية وقد سيطر عليه المجاهدون في معسكر قرب مرقد الحر عليه السلام، ورافقنا الرتل المكون من أحدى وعشرين عجلة نوع إيفا وثلاث سيارات (لاندروفر ) وكان بعضها يحمل العتاد الثقيل والمتوسط.. ويشير، هناك حكاية اسير من قواطع الجيش الشعبي من ديالى والذين تمت محاصرتهم.. احد الاسرى تعرض للضرب فقمت بحمايته وإطعامه والاعتذار منه وأخبرته انه لم يكن هو المقصود بل النظام فقال الاسير (والله يا أبن الأخ جاؤوا بنا بالإكراه ..أين نحن وأين كربلاء!!) وقد تم إطلاق سراح الأسرى من فوج الجيش الشعبي التابع لقاطع بعقوبة وقلنا لهم أذهبوا إلى أهلكم ثم أوصلناهم إلى باب بغداد وأركبناهم عجلات عسكرية انطلقت باتجاه بغداد.
"مكبرات الصوت وحكاية علي كيمياوي"
أصبحت مكبرات الصوت في الحضرتين المقدستين تحثان المجاهدين على الخروج إلى منافذ كربلاء وسدها بوجه الغزاة ، وكان اليوم السادس من الانتفاضة كانت التوجيهات في البداية تنصب على مكانين محتملين لدخول الحرس الجمهوري منها..
الأول باب بغداد الذي أصبح بعد ذلك من أهم معاقل الدفاع عن كربلاء، والثاني باب طريق الحر الذي ينفتح على بحيرة الرزازة ومن هناك إلى الطريق الاستراتيجي المتصل بالفلوجة والرضوانية فبدأت التحصينات في كل استدارة وساحة ومداخل الأحياء والشوارع وكانت التحصينات عبارة عن خنادق وسواتر ترابية وجذوع النخيل وأكياس التراب.. ولكن اليوم الشاق كانت فيه مفارقات جميلة حين خرج علينا شخص يصيح (إخواني ..إحذروا فأن صدام قد عين السفاح علي حسن المجيد وزيراً للداخلية فأحذروا جيداً يا إخواني) وكان الشخص مألوفا لدينا وهو مجنون لتبدأ بعدها تعزيزات النظام السابق من حسين كامل وارتجال من الجيش والقصف الصاروخي والكيمياوي لان المواجهات على الارض كانت تميل لصالح المنتفضين.
ويقول البابي، بعد اليوم الثامن كانت الساعات صعبة جداً حيث لا يوجد ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا إمدادات وبعد مضي يومين على موجة القصف الكثيف بدأت أرتال الحرس الجمهوري تهاجم المدينة من أطرافها الشرقية والغربية، وحدثت معارك عنيفة بين المجاهدين وطلائع الحرس الجمهوري خاصة في منطقة باب بغداد وفي أطراف الحي العسكري وفي بوابة حي الحر.
"تطويق المدينة منفذ طويريج"
بعد خمسة عشر يوما من القتال الدامي يقول البابي، أصبحت كربلاء مطوقة من ثلاث جهات واستطاعت قوات الحرس الجمهوري تأسيس موطئ قدم لها في المنافذ الثلاثة وهي:
أولاً : باب بغداد .. فقد أصبحت مدرعات الحرس الجمهوري على مسافة مئتي متر من قنطرة نهر الحسينية..
وثانياً : باب الحر .. واستطاعت قوات الحرس دخول ذلك المنفذ والتقدم باتجاه مستشفى الولادة.
ثالثاً : باب النجف ... وأيضا استطاعت قوات الحرس من الوصول الى رأس الوادي القديم مقابل مرقد سيد جودة
وبقي منفذ باب طويريج المنفذ الوحيد الذي لم يتعرض الى أي هجوم مباشر.. ولا أعرف السبب الحقيقي الذي منع قوات الحرس من مهاجمة هذا الشارع المهم والاستراتيجي بالنسبة لعمليات المقاومة، إلا في اليوم الأخير لسقوط كربلاء بيد الجيش، وكان باعتقادي أن قوات الحرس الجمهوري وبقية القوات لم تتواجد أو تهاجم باب طويريج لعدة موارد أهمها:
المورد الأول: أن باب طويريج لم تهاجمه قوات الحرس الجمهوري لأنه يقع في منطقة كلها بساتين متشابكة حيث يصعب تقدم الدرع فيها.
والمورد الثاني : لأن باب طويريج لا يشكل نقطة تعويق لتقدم قوات الحرس الى قلب المدينة والمورد الثالث : أن قوات الحرس تعمدت إبقاء هذا المنفذ مفتوح حتى ينسحب منه المجاهدون الى الجنوب لأن محاصرتهم داخل المدينة ستؤدي الى قتال مستميت قد يكلف قوات حسين كامل أياماً طويلة وضحايا كثيرة.
"حكاية الكيمياوي"
ويواصل البابي حديثه، في احدى الليالي كنا في باب الخان سمعنا صوت سيارات تقترب من الشارع، وتبين ان جنودا معهم معاول يحفرون أنابيب الماء قرب شارع العباس (ع). ولم نعرف لماذا بل الادهى من ذلك ان مكبرات الصوت كانت تبين امر الانسحاب فاصبنا بالحيرة وبعد منتصف الليل سمعنا أصوات الاستغاثة رغم ان لا قصف على المنطقة وتبين ان رائحة كريهة تملأ المكان أشبه بالكاربون المحروق، وبدأ بعضنا يشعر بألم وحرقة في العين والسعال الشديد وثمة اطفال اغمي عليهم وهناك رجل يحمل طفلة على صدره وقد غطى أنفه بمنديل ووضع آخر على وجه الصغيرة وهو يصيح: ... كيمياوي ... كيمياوي .. لقد ضربوا المدينة بالكيمياوي وسيموت الجميع إذا لم نخرج الآن !! وعرفنا سر ثقب انابيب المياه. في هذه الضربة ماتت حتى العصافير تتساقط علينا من أغصان الشجرة وهي ترفرف بأجنحتها..لتتم السيطرة على المدينة.
"أسباب اختلاف الروايات"
يؤكد الباحث البابي، ان لا شخص يمكنه ان يحيط بما حصل في الانتفاضة الشعبانية في كل مدن العراق وليس في كربلاء فقط، لأنه لا يمكن لأحد ان يشاهد اي شيء لذلك تبقى الروايات متعددة.. وذلك كما يقول يعود لعدة اسباب :
أولا: إن أكثر المجاهدين الذين انتفضوا بوجه السلطة الحاكمة لم يبرحوا أماكنهم إلا نادراً وانشغلوا بتمشيط مناطقهم ومحلاتهم من بقايا رموز النظام البعثي ومن بعض معاقل الاستخبارات والأمن الصدامي والشرطة المحلية ،ثم أعدوا العدة للدفاع عن مناطقهم بعد هجوم الحرس الجمهوري عليها..
ثانياً: لم يكن هناك توثيق إعلامي من صحافة أو نشرات يومية أو بيانات مسجلة أو تصوير تلفزيوني أو فضائيات عاملة في مدينة كربلاء ، ولم يبق شيء من التوثيق والصور إلاً مجموعة نادرة من اللقطات الشخصية العابرة و بعض الصور التي التقطتها وسائل الإعلام الحكومية التي رافقت القوات الأمنية أثناء وبعد المعركة ، ولم تدخل وسائل الإعلام المحايدة إلى كربلاء إلاّ بعد ثلاثة أشهر من الانتفاضة .. مثل وكالة رويترز للإنباء ، وقناة بي بي سي وغيرها ..
ثالثاً: وهذه النقطة مهمة جداً إنه لم يكن هنالك تنسيق أو ارتباط أو تبادل معلومات بين المجاميع الجهادية العاملة في مدينة كربلاء المقدسة، ما أفقد الانتفاضة وحدة العمل المشترك باتخاذ القرارات الخطيرة خلال أيام الانتفاضة الشعبانية ، وحتى أن الذين قاتلوا ودافعوا دفاع المستميت عن المرقدين الطاهرين في اللحظات الأخيرة من الانتفاضة كان أكثرهم يقاتل دون أن يرتبط بمسؤول معين أو يتلقى الأوامر من جهة قيادية معروفة ، بل كان الجميع يقاتلون بروح الجماعة الواحدة ، والهدف الواحد ، والغاية الواحدة ، وهو الخلاص من نير الظلم وتحطيم أسوار الرعب في المدينة المقدسة وفي كل العراق.















المصدر: جريدة الصباح
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع