شارك هذا الموضوع

يوم السنابس

الكاتب: محمد عبدالله محمد
فَقَدت السنابس في أقلّ من أسبوع أربعة أرواح عزيزة. إلياس وزينب ومحمد وأحمد. كلهم كانوا في أعمار الزهور: 16 عاماً، 11 عاماً، 29 عاماً و29 عاماً. وُضِعَت السنابس الواقعة في الشمال البحريني مما يلي العاصمة المنامة تحت نظام الموت الذي تسلَّل لها وأقام في أرضها أياماً، يخطف ضحية ثم يغيب، لكنه ما يلبث أن يعود كي يأخذ ضحيته الأخرى. فبين إلياس (نجل زميلنا العزيز في «الوسط» علي جواد) وزينب ثلاثة أيام في توقيت المواراة. وبين زينب ومحمد يوم واحد. وبين محمد وأحمد ساعات فقط. ونحن هنا نواسي أهلهم الأحبة، ونشدّ على أيديهم فموتاهم لا ينتمون لهم فقط بل لنا جميعاً.
لقد حقَّ أن يُسمَّى (مجازاً) ما جرى بـ «يوم السنابس»، كما ذكر ذلك أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي (110 – 204 هـ) أحد أشهر أهل الأنساب العرب، حيث ذكر ضمن ما ذكر من كُتب وأيام العرب أنه كان عندهم: يوم السنابس إلى جانب يوم سنّيق وأيام بني حنيفة وقيس بن ثعلبة، التي حُكِيَ ما حُكِيَ فيها من الملاحم ومصائب وأيضاً النواحي الأدبية من شعر ونثر كما جاء.
خلال أيام العزاء الممتدة فأنتَ لا ترى مشاهد حزن يهدّ الجبال فقط بل ترى أشبه بالسراب الحوّام لكنه ليس سراباً بل شيئاً حقيقياً، يعكس العلاقة المرتبكة بين الإنسان والتراب، والتي ورغم أنها عضوية إلاّ أن هناك خوفاً من الإنسان أن يلِج جوفها وحفرها. تذكرت باتريك سوسكند عندما كان يقول: «تسعى جميع الكائنات الحيّة للابتعاد عن الأرض، أي تنمو مبتعدة عنها ولا تنمو فيها، ولهذا فهي ترفع أسمى أجزائها في جهة السماء فترفع الحبوب السنابل وتحمل سوق الأزهار الوريقات والإنسان رأسه، ولهذا عليها أن تعود إلى الأرض إذا غلبها العمر ودمّرها الغاز المُميت». لكن الحقيقة الكبرى في كل ذلك تكمن في أن «الحياة محببة والموت هادئ ولكن المشكلة هي الانتقال» كما إسحاق عظيموف. فلحظة الانتقال ورؤية هذا السّر الكبير هي السبب من ذلك النفور.
في لحظات الفقد، عادةً ما تكون العواطف مشحونةً ورقيقةً ومكسورةً أيضاً. فالوالدان يرفعان المِجْلَد على الولد الفقيد، فهما (أو أحدهما) ربّياه مذ كان رضيعاً، حتى شَبَّ واستوى عوده وناظَرَ أباه أو أمه. والأرامل تعتصر ألماً على الفراق والخوف من تِيْه الحياة. والأيتام تبكي لبكاء ما تراه مِنْ هول الصراخ والنحيب وغياب السَّنَد، فتُبكِيْ مَنْ يراها ليتحوَّل كل شبر حولها إلى بكاء وعزاء، وكل نسمة هواء معلّقة إلى سموم لا تطفئها دموع العين التي هي أصلها كالحُمَم.
وقد استُحِبَّ البكاء في المصائب، فهو بمثابة الماء الجاري على الحزن، يمر عليه فيُبرِّده ويُسكِّن النفس، ويريح النَّفَس، ويرمي بأوجاع المصاب على الوجنتين خارجاً ثم إلى الأرض كي يتخفّف الإنسان من كَمَدِه. لذلك فإن حبْسه (أي البكاء) مدعاةٌ لأن يجثم شيء ثقيل على الصدر لا يقوى أحد على حمْله كأنه الصخر. وقد جاء في القرآن الكريم في سورة يوسف (الآية 84) حول بكاء نبي الله يعقوب على ابنه عليهما السلام: «وتولَّى عنهُم وقال يا أَسَفَى على يُوسُفَ وابْيَضَّتْ عيناهُ من الحُزنِ فَهُوَ كظيمٌ».
وقد أورد الحسين بن محمد بن الحسن الدياربكرى في تاريخ الخميس أنه جاء في الكشاف أن النبي (ص) «سأل جبريل ما بلغ من وَجْدِ يعقوب على يوسف، قال: وَجْد سبعين ثكلى، قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مئة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط».
ثم ينقل قول النبي محمد (ص) حين بكى على ولده إبراهيم: «القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون»، كما في «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» للمزي.
ومما يُذكر في حالات المصاب والابتلاء في فقد الولد، أن محمد بن عبد الرحمن بن الفرفور الحنفي «كان شاباً فاضلاً نجيباً، مات في حياة أبيه فجأةً، ولما وُضِعَ في لحده وقفَ ولده محمد، وكان يومئذ صغيراً، وقال لجدّه القاضي عبد الرحمن يا سيدي:
كأنْ لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا

أنيسٌ ولم يَسْمُر بمكة سامرُ
فبكى القاضي عبد الرحمن بكاءً شديداً، وبكى الناس لبكائه ثم قال يا ولدي:
فَكأنه بَرْقٌ تَألَّقَ بالحمى

ثمّ انقضَى فَكَأنّه لَمْ يَلمَع
وذكر المبرد في التعازي أن رجلاً خرج «مع خالد بن الوليد بدومة الجندل، فاستشهد فجزع عليه أبوه فبكاه حتى كثر عليه بكاؤه، فَلِيْمَ في ذلك وعُوتِب، فقال: دعوني أبكي عليه ما أسعدتني عيني، فإن دموعها ستنفد وتبلى كما ذهب نافع وبلي. وقال يرثيه:
ما بالُ عَينِي لا تغمّض سَاعةً

إلاّ اعترتني عبرةٌ تغشاني
نعم، فقد يُصبِّر الأخُ أخاه في مصابه، لكن الحقيقة هي أن صاحب الحزن هو مَنْ يملك القدرة على فهم حزنه ومداه؛ كونه الوحيد الذي يعيش اللحظة بحقيقتها. في النهاية يبقى أننا كبشر، الأقدر على إخضاع الحياة والبدء فيها بعزيمة وقوة، فـ «لا يجب أن يخشى المرء من الموت، بل من ألاّ يبدأ أبداً في الحياة» كما قال أحد الرومانيين.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4653 - الخميس 04 يونيو 2015م الموافق 17 شعبان 1436هـ

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع