شارك هذا الموضوع

لنتعلم من الشيخ يوسف البحراني كيف نختلف

من المعروف أنّ الشيخ يوسف البحراني يعد أحد الأخباريين البارزين الذين عاشوا في الفترة التي كان النقاش فيها مستعراً بين المجتهدين والأخباريين حول أحقية كلّ طرف على حساب الآخر.لقد انتهى به المطاف في كربلاء، بعد أن طوّف في بلدان كثيرة، ودخل مدنا عديدة،  ويذكر السيّد عبد العزيز الطباطبائي ما حصل للشيخ بعد نزوله فيها فيقول:" لمّا هبط كربلاء رحّب بقدومه أعلامها، وسرّ به فطاحلها، فتوسّط أندية العلم وحلقات التدريس، وانضوى إليه غير يسير من أولئك الأفذاذ يرتشفون من بحر علمه المتدفّق "إلى أن قال" وازداد أولئك النياقد خبراً بغزارة علمه وفضله، ومكانته المرموقة في الفقه والحديث بعد أن وقفوا عليه من كثب، ودارت بينه وبين الأستاذ الأكبر المحقّق الوحيد (نور الله ضريحهما) مناظرات كثيرة طويلة في الأبحاث العلمية العميقة، ربما استوعب بعضها الليل كله" . إنّ الشيخ وعلى الرغم من كونه أخبارياً، وعلى الرغم من شدّة النقاش والتناظر بين الأخباريين والمجتهدين إلا أنه كان ملتزماً بالخلق الرفيع في التعامل مع أصحاب الفكر الآخر من أهل طائفته، وكدليل على ذلك، نجده يستنكر الطعن والتشنيع بالمجتهدين الذي أظهره الاسترابادي أحد أقطاب الأخباريين، وفي ترجمة هذا العالم يقول الشيخ:" هو أوّل من فتح باب الطعن على المجتهدين وتقسيم الفرقة الناجية إلى أخباري ومجتهد، وأكثر في كتابه الفوائد المدنية من التشنيع على المجتهدين، بل ربما نسبهم إلى تخريب الدين، وما أحسن وما أجاد، ولا وافق الصواب والسداد، لما قد ترتّب على ذلك من عظيم الفساد"
إنه لخلق رفيع أن يلتزم الشيخ بالأخلاق الإسلامية السمحة حتى مع من يختلف معهم في الفكر ويستنكر على أصحابه إن طعنوا وشنعوا ضد خصومهم.
لقد كان الشيخ يوسف زعيم الأخباريين في كربلاء في وقته، وكان الوحيد البهبهاني زعيم المجتهدين، وقد كان الخلاف بينهما في شأن ذلك واضحاً وجلياً، ولذا كان البهبهاني ينافر الشيخ أشدّ المنافرة كما يذكر ذلك السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة، وينقل الخوانساري في كتابه روضات الجنات أنّ العلامة البهبهاني "أنكر سير هذا الرجل الجليل (الشيخ يوسف) في زمن حياته وشدّد الملامة والتبخيل على من حضر في مجلس إفاداته، بحيث قد نقل: أنّ ابن أخته الفاضل صاحب "رياض المسائل" كان من خوفه يدخل على ذلك الجناب سراً ويقرأ عليه ما كان يقرأ عليه ليلاً ومتخافتاً لا جهراً".
لقد عانى الشيخ يوسف من هذا الضيق، وعلى الرغم من كلّ هذا، لا تجده يرد على الغير بالمثل، فلا تنقل كتب التراجم أنّه صنع كما صنع به الآخرون، بل العكس من ذلك تماماً حيث ينقل السيّد عبد العزيز الطباطبائي أنّ الشيخ يوسف كان قد أوصى بأن يقوم بالصلاة عليه بعد وفاته الوحيد البهبهاني نفسه.
يا لها من نفسٍ عظيمة، يا له من خلق رفيع، إنّ البهبهاني كان ينافر الشيخ أشد المنافرة وكان يشدّد الملامة على من يحضر درس الشيخ، ومع ذلك ترى أنّ الشيخ يوصي بأن يصلّي البهبهاني عليه بعد وفاته . إنّها أخلاق الأنبياء التي يجب أن يتحلى بها المسلم أينما كان وفي كلّ زمن، وإنّه لحري بنا ونحن نعيش الاختلاف أن نستلهم من هذا الرجل عظمة السماحة الإسلامية والخلق الإيماني العظيم، يجب أن نعيش حياة الشيخ ونستلهم منها دروساً تطبق في الحياة العملية، ولا يكفي أن نفخر به كرجلٍ ولد وتربّى في تربة البحرين دون أن نستلهم منه دروساً نحن في أمس الحاجة إليها. إنّ الكثيرين من الأخوة يبرّرون نفورهم من أخوتهم بحجّة الاختلاف في الفكر، وهاهو الشيخ يقترب ممن نافره وشدّد الملامة على من يحضر درسه، إنـّها لعبر عملاقة تحتاج فقط إلى من يعتبر بها.
"وقد روى الشيخ عبد الله المقمقاني في كتاب " تنقيح المقال" عن أبيه أن المولى البهبهاني سئل عن الصلاة خلف الشيخ يوسف صاحب الحدائق وكانا متعاصرين فقال: لا تصح، وسُئل الشيخ يوسف عن الصلاة خلف البهبهاني؟ فقال: تصح. فقيل له: كيف تصححها خلف من لا يصحح الصلاة بصلاتك؟! قال: وأية غرابة في ذلك؟! إن واجبي الشرعي يحتم عليّ أن أقول ما أعتقد، وواجبه الشرعي يحتم عليه ذلك، وقد فعل كل منا بتكليفه وواجبه. وهل يسقط عن العدالة لمجرد أنه لا يصحح الصلاة خلفي ؟! .
أرأيت إلى هذا القلب الكبير الذي لا يخفق بغير الإيمان؟ أرأيت إلى هذا الصدر الرحب الذي يتسع للعدالة، وإن تكن عليه لا له؟ أرأيت إلى هذه النفس الزكية الطاهرة من العجب والتكبر ومن كل شائبة، هذه النفس التي لا تعرف إلا الصدق والإنصاف والتواضع. وليس من شك أن هذا المنطق غريب على الأكثرية الغالبية من شيوخ هذا العصر ، لأن كل شيخ من هذه الأكثرية أو الكثرة يرى الدين مجسما ً في شخصه بالذات، فعدم الثقة به معناه عدم الثقة بالدين، وهذا هو حد الكفر أو الفسق على الأقل. أما من جمع بين الدين والعلم والعقل، أما من ينوب عن المعصوم حقا ً، ويمثله في حماية الشريعة وإحيائها فلا يرى في هذا المنطق أية غرابة مادام الدين يحتم الصراحة وإعلان الحق، حتى ولو كان على النفس: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين "  النساء/135" (مع علماء النجف، محمد جواد مغنية،74). 
ومن قصص أخلاقه العالية ما نقله صاحب (علماء البحرين)، من أنّ الوحيد البهبهاني - رحمه الله سُئل عن الصلاة خلف الشيخ يوسف فقال: (لا تصح)، وذلك في خضم المسألة المثارة بين الأصوليين والأخباريين، وعندما سُئل المحقق البحراني - رحمه الله - عن الصلاة خلف البهبهاني قال: (تصح)، ولما رأى استغراب السائل قال - رحمه الله - : "وأيّة غرابة في ذلك؟! وإنّ واجبي الشرعي يحتّم عليّ أن أقول ما اعتقده، وواجبه الشرعي يحتّم عليه ذلك، وقد فعل كلٌّ منّا بتكليفه وواجبه، وهل يسقط من العدالة لمجرد أنّه لا يصحح الصلاة خلفي؟ "                         
وفي هذا الصدد كتب الأستاذ عقيل يوسف مقالا ً قيما جديرا ً بالقراءة والتأمل في أحد المواقع بعنوان " إدارة الخلاف لدى الفقيه الشيخ يوسف البحراني" يقول فيه : "  من منا لا يعرف الفقيه الفذ الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق الناضرة، وهو من أمهات الكتب الفقهية التي توسعت في بحث آراء الفقهاء والعلماء وصورة من صور الفقه الاستدلالي، ولكن لهذا العلامة رؤية حضارية أسعى لاستقصائها في مثل أوضاعنا المرة، وقد ينطبق بعض ما يجيء فيها على أكثر من واقع .
إلى أولائك الذين يستهويهم النظر إلى الكتب الفقهية، وينعمون النظر والتمقل فيها، مقتبسين بعض الكتاب، وتاركين بعضه، مبتغين المتشابه منه، مهملين المحكم، انظروا إلى فقيه عظيم من فقهاء البحرين كيف كان يتحدث عن قضية خلافية استحكمت منذ زمن (وقد قبرت ولله الحمد)، حتى كثر اللغط والغلط فيها، بين علماء مختلفين، ليجيء صوت هذا الفذ، من بين ركام الفريقين محددا موقفه، بكل بوضوح ضمن إطار حضاري، راقي يستوعب الكثير من المشاكل التي هي اقل شأنا، وأدنى رتبة من قضية علمية، ولكن هذا الإطار لا يستوعبه أولائك النصوصيون الحرفيون، المتخشبون، لأنه يستوعبون ويأخذون المسائل الصغيرة، مهملين إطارها العريض. ولكم أن تقيسوا على طريقة خلاف الشيخ يوسف العصفور، طريقة خلافنا في المسائل المختلفة. قال الشيخ يوسف العصفور في كتابه (الدرر النجفية) حول قضية الإخبارية والأصولية، ما يلي نصه:"اعلم  أيدك الله تعالى بتأييده أنه قد كثرت الأسئلة من الطلبة عن الفرق بين المجتهدين والإخباريين، وأكثر المسؤولون من وجوه الفروق في ذلك، حتى إن شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله ابن الحاج صالح البحراني (قده) في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) قد أنهاها إلى ثلاثة وأربعين، حيث كان من عمد الإخباريين المتصلبين.وقد كنت في أول الأمر من الجارين على هذه الطريقة، وقد أكثرت البحث في ذلك مع بعض مشايخنا المعاصرين من المجتهدين، وقد أودعت كتابي الموسوم بـ (المسائل الشيرازية) مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية المتعلقة بذلك والمؤيدة لما هنالك. إلا إن الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام، و إمعان النظر في تلك الفروق التي ذكرها أولئك الأعلام، هو سد هذا الباب، و إرخاء الستر دونه والحجاب وان كان قد فتحه أقوام، وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام.
أما أولا: فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين، والإزراء بفضلاء الجانبيين، كما قد طعن به كل من علماء الطرفين على الآخر، بل ربما انجر إلى القدح في الدين، ولا سيما من الخصوم المعاندين، كما شنع عليهم به الشيعة في انقسام مذهبهم ودينهم إلى المذاهب الأربعة، بل شنع من أرباب المذاهب الأربعة على الآخر.
وأما ثانيا: فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بين الفرقتين، وجعلوه مائزا بين الطائفتين، جله، بل كله عند التأمل بعين الأنصاف، وتجنب جانب التعصب و الاعتساف  لا يوجب فرقا على التحقيق، كما سنوضح لك ذلك في المقام بأوضح بيان تشتاقه الطباع السليمة والأفهام.ولقد كان العصر الأول مملوءا من المحدثين والمجتهدين، مع أنه لم يرتفع بينهم صيت هذا الاختلاف، ولم يطعن أحد منهم أحد الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف، وان ناقش بعضهم بعضا في جزئيات المسائل، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل، بل كما شأن العلماء من كل قبيل، والأمر الدائر بينهم جيلا بعد جيل.
وحينئذ فالأولى، والأليق بذوي التقوى، والأحرى في هذا المقام وأقوى، هو أن يقال: إن علماء الفرقة المحقة، وفضلاء الشريعة الحقة رفع الله تعالى درجاتهم، و ألحقهم بساداتهم سلفا وخلفا إنما يجرون على مذهب أئمتهم المعصومين وطريقتهم التي أوضحوها لديهم، فان جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور، بل المتواتر على ممر الأيام والدهور، يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة القويمة والطريقة المستقيمة، ولكن ربما حاد بعضهم أخباريا كان أو مجتهدا عن الطريق، غفلة أو توهما أو لقصور اطلاع أو قصور فهم، أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو لا يوجب تشنيعا ولا قدحا في أصل الاجتهاد.
وجميع تلك الأمور التي جعلوها مناط الفرق إنما هي من هذا القبيل، فإما أن تكون من جملة المسائل التي اختلفت فيها الأنظار، وتصادمت فيها الآراء والأفكار، أو أن ذلك القول ناشئا عن بعض الأشياء المذكورة، أو ذلك، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
وأنت تعلم  أن كلا من المجتهدين والإخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل وربما خالف أحدهم نفسه، مع أنه لا يوجب تشنيعا ولا قدحا. وقد ذهب رئيس الإخباريين الصدوق (رحمه الله) إلى جملة المذاهب الغريبة. بل النادرة التي لم يوافقه عليها أخباري ولا مجتهد، مع أنه لم يوجب ذلك طعنا عليه ولا قدحا، في علمه وفضله.
ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا ارتكاب هذا الاعتساف إلا من زمن صاحب الفوائد (الفوائد المدنية) سامحه الله تعالى وعامله برحمته المرضية فانه قد جرد لسان التشنيع على الأصحاب، وأسهب في ذلك أي إسهاب، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب، وهو وان أصاب الصواب في بعض ما ذكر في ذلك الكتاب، إلا أنها لا تخرج عما ذكرناه من سائر الاختلافات بل هي داخلة فيما ذكرناه من التوجيهات.
وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد وان لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد، فإنهم رضوان الله عليهم لم يألوا جهدا في إقامة الدين وإحياء شريعة سيد المرسلين، ولا سيما آية الله العلامة الذي أكثر من الطعن عليه والملامة، فإنه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين حتى آمن بسببه الجم الغفير، ودخلوا في هذا الدين الكبير والصغير، والشريف والحقير، وصنف من الكتب المشتملة على غوامض العلوم والتحقيقات، حتى إن من تأخر عنه لم يلتقط إلا من درر نثاره، ولم يغترف إلا من زاخر بحاره، وقد صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحق به الثناء الجميل، ومزيد التعظيم والتبجيل، لا الذم والنسبة إلى تخريب الدين، كما اجترأ به قلمه عليه وعلى غيره من المجتهدين. إذا عرفت ذلك، فاعلم أن ما ذكره شيخنا الصالح المتقدم وذكره من الفروق، وأطال به من الشقوق، كثير منه بل أكثره بغير طائل، وترديده لا يرجع إلى حاصل.
ثم يبسط نقاط الخلاف (رحمه الله) بكل علمية، فرحمك الله يا شيخنا وفقيهنا محدثا وعالما ربانيا. وكما قلت إن طريقة الشيخ الفقيه في الاستعراض، والتعامل تعكس رؤية حضارية، تؤطر خلافه مع الأصوليين، وهي تصلح أن تكون إطارا للكثير من الخلافات، وسأستعرض هنا هذه العناصر التي شكلت هذا الإطار:
1- القدرة على المراجعة، وإعادة النظر في المواقف والآراء السابقة: فقد ذكر الشيخ ذلك في قوله (وقد كنت في أول الأمر من الجارين على هذه الطريقة) يعني أنه نحى في فترة سابقة منحى شبيه أو قريب من المنحى السائد، لكنه يقول بعد ذلك: (إلا إن الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام....) ويذكر وجهة نظره الجديدة، التي يستعرض فيها المسألة بشكل آخر، يختلف عما سبق.هذه القدرة على المراجعة، هي قدرة لا تؤتى لأي شخص فمن منا، يضرب على صدره، ويعرف بخطئه، ويراجع مواقفه بكل تقبل.
2- مراعاة النظر للآخر، ونظرته للمذهب الجعفري الحق: فقد لا حظنا قوله: (بل ربما انجر إلى القدح في الدين، ولا سيما من الخصوم المعاندين، كما شنع عليهم به الشيعة في انقسام مذهبهم ودينهم إلى المذاهب الأربعة، بل شنع من أرباب المذاهب الأربعة على الآخر) فهو إذاً ً يراعي كيفية عرض المبادئ، والعقائد المذهبية للآخرين، وكبت ما يمكن أن يسبب للمذهب قدحا أو ذما أو هزءا، خاصة إن كان كما عبر الشيخ بأنه ليس خلافا رئيسيا. وهنا نذكر موقف الفقهاء المعاصرين، وعلى رأسهم سماحة قائد الثورة آية الله العظمى السيد الخامنئي، الذي أعاد النظر، مع الفقهاء الأعلام في فتوى الحيدر، بعد أن تبين له ذلك الضرر الذي يلحقه بصورة المذهب، والعقيدة (وان ذهب فقهاء محترمون آخرون لرأي مختلف).
3- إعطاء المسائل الخلافية حقها، دون تضخيم أو تهويل: فقد قال الشيخ (قدست نفسه الشريفة):  (فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بين الفرقتين، وجعلوه مائزا بين الطائفتين .....لا يوجب فرقا على التحقيق)، فهو لا يريد أن يخرج بهذا الخلاف عن إطاره العلمي المحدود، الذي ضخمه بعض العلماء الآخرين، وأعملوا فيه الدواة، قدحا وذما.
4- تطبيع الخلاف، والبحث في جذوره ومظاهره القديمة: فهو رحمه الله يشير في هذه العبارة (ولقد كان العصر الأول مملوءا من المحدثين والمجتهدين، مع أنه لم يرتفع بينهم صيت هذا الاختلاف ...) إلى أن الخلاف كان قديما وطبيعيا بين العلماء، في هذه المسائل، فالأمر ليس جديدا. وعليه نعيد النظر في الكثير من المسائل التي تصورنا أنها جديدة وحديثة، وتستحق أن يتشعب عليها الناس فنجدها، مدار خلاف غير جديد، وطبيعة الحسم فيها مازال آجلا، فلماذا يكثر اللغط والتحزب لكل جهة، غافلين أن القدماء ما انقسموا ربما في قضايا مثلها أو شبيهة بها.
5- تغليب التقوى وإدارة الخلاف بالورع: قال شيخنا العصفوري: وحينئذ فالأولى، والأليق بذوي التقوى، والأحرى في هذا المقام وأقوى) فقد تنهض أدلة علمية، وقد تتباعد المواقف، لكن الورع والتقوى، يحجران على المرء التصريح بما يخل، بهيبة الدين، ويباعد بين المسلمين، لا سيما إذا كان من نوع الخلافات المصطنعة، والموهومة.
6-الحق يقال، لك أم عليك: تأملوا في هذه العبارة، بعد أن تعرفوا أن شيخنا يوسف العصفور (طاب ثراه) كان من أكابر الفقهاء الإخباريين:  (فان جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور، بل المتواتر على ممر الأيام والدهور، يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة القويمة والطريقة المستقيمة، ولكن ربما حاد بعضهم  أخباريا كان أو مجتهدا عن الطريق، غفلة أو توهما أو لقصور اطلاع أو قصور فهم، أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو لا يوجب تشنيعا ولا قدحا في أصل الاجتهاد) فهو يقول إن الحياد عن جادة الطريق، ليس مقتصرا على خصومه (العلميين طبعا) بل حتى من هو في جانبه من الإخباريين، قد حاد بعضهم، ثم يعطي الكل حقه لا وفق آرائهم بل وفقا لغيرتهم الدينية ودفاعهم عن الرسالة المحمدية، وان تباعدت العلوم والمواقف. بل قال عن دورهم في إدخال الناس في الدين كبيره وصغيرهم ولم ينكر لهم عطاءهم العلمي والجم، وفضلهم الكبير.
7- النقد العلني: إن الكتاب الذي بين يدينا كتبه الشيخ يوسف العصفور، هو يصرح فيه بكتاب عالم جليل كبير هو الفوائد المدنية، في إشارة واضحة إليه، دون أن يقال هو ارتكب الكبيرة فنصح علنا، وانتقد جهارا، ويذكره ويترحم عليه، ويعلن موقفه مما كتبه بكل حب وود وحرص شديد على سلامة الموقف.
8- الأدب، واللياقة اللفظية التي يتعامل بها شيخنا مع من يختلف معهم: وهذا ظاهر من الكلمات التالية: (الأعلام، والفضلاء، العلماء، المتقين) وهو كما يصف علماء الإخباريين فيقول عن الشيخ الصدوق (قدست نفسه الطاهرة) رئيس الإخباريين، ويقول عن الاسترآبادي (من العلماء الأطياب) ويترحم عليه رغم خلافه معه في وجهة النظر، لهذه المسائل.كما أنه يعامل علماء المجتهدين، ويصف عالما من كبار علمائهم بـ (آية الله العلامة) رغم أن لا يوافقه في الخط العملي. ومرة أخرى أتساءل أين نحن منك يا شيخنا، وأين هذه الروح العظيمة، من هذا الخلافات التي تعج بها الطائفة، ولا نحسن إدارتها، وتصفيتها بشكل إيماني وعلمي.
رحمك الله عالما فقيها ومحدثا كبيرا، ورجلا عظيما. " فتأمل .


علي المحرقي
13/8/2012م

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع