شارك هذا الموضوع

أسباب السكن النفسي

جاء في (الصّحّاح في اللغة)سَكَنَ الشيء سُكوناً: استقرَّ وثبت.وسكَّنَهُ غيره تَسْكيناً.والسَكينَةُ: الوَداعُ والوقار.وسَكَنتُ داري وأَسْكَنتُها غيري والاسم منه السُكْنى. وجاء في (مقاييس اللغة)

السين والكاف والنون أصلٌ واحد مطّرد، يدلُّ على خلاف الاضطراب والحركة. يقال سَكَن الشّيءُ يسكُن سكوناً فهو ساكن.والسَّكْن الأهل الذين يسكُنون الدّار. وفي (لسان العرب)السُّكُونُ: ضدّ الحركة. سَكَنَ الشيءُ يَسْكُنُ سُكوناً إذا ذهبت حركته، وأَسْكَنه هو وسَكَّنه غيره تَسْكيناً.وكل ما هَدَأَ فقد سَكَن كالريح والحَرّ والبرد ونحو ذلك. وسَكَنَ الرجل: سكت، وقيل: سَكَن في معنى سكت، وسَكَنتِ الريح وسَكَن المطر وسَكَن الغضب.


إذا ً نستنتج من هذا أن السكن والسكينة هو الاستقرار والثبات وعدم الاضطراب النفسي، ويعني لغة الوقار والوداعة داخل الإنسان، وهو خلاف الاضطراب والحركة ، مما يشير إلى الهدوء والراحة .


وبلا شك أن كل واحد منا يبحث في هذه الحياة العاصفة والمضطربة عن السكينة والراحة النفسية والاستقرار في داخله بحيث لا يشعر باضطراب وبعواصف تقتلعه من الداخل وليحيا حياته هادئ البال مرتاح النفس مستقر ا ً ثابتا ً في مشاعره ، وهي حياة كله كدح ومشاكل وعواصف واضطرابات لا تنتهي أو تتوقف لحظة إذ يقول تعالى : " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" الانشقاق/6. وعلى الأخص المؤمن الذي يحيا حياته متصلا ً بالله، ومؤتمرا ً بأوامره ومنتهيا ً عن نواهيه ، ويعيش في كل حركاته وألفاظه ونظراته وأفكاره مراقبا ً الله ومبتغيا ً مرضاته ومجتنبا ً إغضابه أو ارتكاب معصية توجب سخطه. هذا المؤمن أحوج ما يكون إلى السكينة والهدوء النفسي وهو يتقلب في ظل هذه الأجواء القاتمة ، وفي ظل الضغوطات الحياتية القاتلة والتي لا ترحم . المؤمن المتمسك بعقيدته أكثر الناس حاجة لما يبعث إلى نفسه الثبات والهدوء والطمأنينة. . نقول المؤمن على الأخص ، ولكن حين نرجع إلى القرآن الكريم نجده يذكر لنا بأن الإنسان أيا ً كان هذا الإنسان لا تهدأ نفسه ، ولا تستقر وتشعر بالسكينة إلا إذا توفر لها مجموعة من العوامل التي تعد في نظر القرآن هي الأساس والمنطلق لسعادته ولهدوء نفسه .


وقد لوحظ في التعبير القرآني أنه يحرص على لفظة السكن والسكينة ومشتقاتها وتصريفاتها ، ويؤكد القرآن الكريم هنا بأن السكينة لا تدخل قلب الإنسان إلا إذا حصل على هذه الأمور وتملكها في حياته ، وهي أمور خمسة (5) ، هي أسباب السعادة والاطمئنان لدى الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، ولا يعني هذا أن الإنسان إذا حصل عليها لا يتألم ولا يشقى في حياته ولا يكدح أو يصيبه فقر ولا سجن ولا حاجة : " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " النساء/104 إذا ً الإنسان حتى لو حصل على هذه الأمور الخمسة فإنه يتألم ويتعرض للضنك وللمشقة ، ولكن مع هذه الصعوبات والمشقة ، ومع الكدح والفقر والعوز والحاجة إلا أن قلبه مطمئن ، وداخله مستقر ، ويشعر براحة نفسية واستقرار لا يشعر به غيره ممن افتقد إلى هذه الأمور الخمسة التي يؤكد القرآن الكريم أنها هي الأساس في الاستقرار وهي التي أنشأها الله وخلقها وأنزلها مع الإنسان ومع خلقه الأول لتشعره بالسعادة ، ولتعينه على تحمل مشاق الحياة الصعبة ، ولتساعده على اجتياز الدرب المؤلم الذي سيسير عليه في طريقه إلى الله ، وتعينه على عبادته حق عبادته.


أما هذه العوامل الخمسة التي تدخل الاستقرار والهدوء النفسي والسكينة إلى أعماق الإنسان حسب ما جاء في القرآن الكريم فهي :


الإيمان :


قال تعالى : " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ً " الفتح/4، ويقول : " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " الفتح/26، ويقول :" فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم " الفتح/18. الآيات السابقة تؤكد بأن الله قد أنزل السكينة في قلب المؤمن بسبب إيمانه ، فمتى ما دخل الإيمان بقوة وثبات وصدق إلى قلب رجل فإن السكينة والاطمئنان تدخله وذلك بأمر من الله ، فالله هو الذي ينزل السكينة عليه بإرادته وبنفسه جلَّ وعلا ، صحيح أن المؤمن يتعذب ويشقى ويتألم في هذه الحياة ولكنه بسبب إيمانه وثباته على الحق وتطلعه لحياة أخرى ونعيم دائم ولأنه يعلم أن ما يقوم به بأمر من الله وفيه رضا له سبحانه فإن كل ذلك يجعله يشعر بالسعادة والهدوء النفسي والاستقرار ولا يتحسر أو يتذمر أو يشكو أو يتأسف ويشعر بضيق يخالجه. " وترجون من الله ما لا ترجون" هذا هو الذي يخفف الألم ، بعكس غير المؤمن ، فإنه يتألم ولا يستقر نفسيا ً ويشعر بالاضطراب والتشتت الدائمين .


" إذا لم يكن للإيمان أية ثمرة سوى مسألة السكينة لكان على الإنسان أن يتقبله، فكيف به وهو يرى آثاره وثمراته وبركاته! والتحقيق في حال المؤمنين وحال غير المؤمنين يكشف هذه الحقيقة ، وهي أن الفئة الثانية يعانون حالة الاضطراب والقلق الدائم، في حين أن الجماعة الأولى في اطمئنان خاطر عديم النظير. وفي ظل الاطمئنان فإنهم :" لا يخشون أحدا ً إلا الله " الأحزاب/39، كما أنهم في مواصلة نهجهم لا يؤثر اللوم والتهديد فيهم أبدا ً :" ولا يخافون لومة لائم" المائدة/54، وهم يتمسكون بأصلين مهمين في حفظ هذه السكينة، وهما: عدم الحزن على ما فاتهم، وعدم التعلق والفرح بما لديهم، فهم مصداق لقوله تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " الحديد/23، إن المؤمن لا يرى نفسه وحيدا ً في ميدان الخطوب والحوادث بل يحس بيد الله على رأسه ويلمس إعانة الملائكة ونصرتهم له، في حين أن غير المؤمنين يحكمهم الاضطراب في أحاديثهم وسلوكهم ولا سيما عند هبوب العواصف وطوفان الأحداث إذ يرى كل ذلك منهم بصورة بينة !" التفسير ألأمثل ج16/429.


الزواج :


قال تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ً لتسكنوا إليها " الروم/21


فالقرآن يؤكد هنا بشكل واضح وجلي بأن من أبرز أهداف الزواج هو السكن النفسي والاستقرار العاطفي والأنس والراحة وهدوء البال .


في دراسة أجريت على 34500 شخص تبين أن الزواج يساعد على الاستقرار النفسي، ويخفض من احتمال الإصابة بالاكتئاب. وارتكزت الدراسة على مسح لمنظمة الصحة العالمية للصحة النفسية في جميع البلدان النامية والمتقدمة، أجري على مدى العقد الماضي [CNN]. يقول أخصائي علم النفس السريري، كيت سكوت، من "جامعة أوتاغو" في نيوزيلندا: ما تشير إليه دراستنا أن رابط الزوجية يوفر الكثير من الفوائد للصحة النفسية لكل من الرجل والمرأة، إن الأسى والاضطراب المرتبطة بالانفصال يمكن أن تجعل الناس عرضة للاضطرابات العقلية." وتؤكد هذه الدراسة جملة أبحاث سابقة بأن الزواج يعزز صحة الرجل.إن علماء الغرب اليوم وبعد دراسات طويلة ينادون بالزواج كضرورة ماسة لصحة الفرد وزيادة دخله واستقرار حالته النفسية، ويؤكدون من خلال أبحاثهم العلمية أن الزواج أفضل من الرهبانية. جاء في دراسة حديثة حسب موقع CNN أن المتزوجين في صحة أفضل من تلك التي يتمتع بها العازبون، رغم أن الرجال المتزوجين أكثر عرضة لزيادة الوزن أو البدانة من الرجال الآخرين، وذلك في إحصاء قام به المركز القومي لإحصاءات الصحة.


في دراسة قام بها المكتب الإحصائي الأسترالي تبين أن المتزوجون أطول عمراً من غير المتزوجين، ويقول البروفسور بيتر ماكدونالد من معهد البحث السكاني والاجتماعي: إن المتزوجين لهم معدلات عمر أعلى من أولئك الذين فضلوا العيش وحيدين، وربما يكون سبب ذلك أن المتزوج يجد من يعتني به ويضفي على حياته السعادة ويعطيه النصائح.


وقد لاحظت الدراسة أن النساء المتزوجات أيضاً تزيد أعمارهن عن العازبات. ويؤكد الباحثون على أهمية الزواج وأنه يمنح الإنسان قدرة على السعادة والتفكير الإيجابي وبالتالي يمنحه مناعة أكبر، وهذه العوامل تساهم في أن المتزوجين يعيشون أكثر.


وقد أكدت بعض الدراسات على أهمية العلاقات الاجتماعية، فقد لاحظوا أن الإنسان الذي يتمتع بعلاقات أقوى ولديه روابط اجتماعية وخصوصاً مع أقاربه يعيش أكثر من ذلك الإنسان الانعزالي! يؤكد الباحثون في مجال علم النفس على أهمية أن يكون للرجل زوجة، ويقولون إن وجود زوجة بقربه دائماً سوف تخفف التوتر النفسي بشكل كبير وتخفف القلق والإحباط. وفي دراسة حديثة وجدوا أن الرجل عندما يسافر وبخاصة سفراً متكرراً من أجل العمل أو التجارة أو الدراسة، فإن احتمال أن يُصاب بأمراض القلب تنخفض جداً عندما يكون بصحبة زوجته! وجدوا أيضاً أن الرجل المتزوج أكثر قدرة على التركيز والإبداع، أما المرأة المتزوجة فقد وجدوا أنها أكثر قدرة على العطاء من المرأة غير المتزوجة، وفي ظل العنف المنزلي الذي نراه اليوم في الدول المتقدمة، فإن العلماء يؤكدون أن معظم هذا العنف ناتج عن مخالفة الزواج الطبيعي، واللجوء إلى الزواج غير الشرعي، حيث تجد رجلاً وامرأة يعيشان معاً دون أي عقد زواج، وهذا يؤدي إلى عدم الاستقرار. كما تؤكد دراسة حديثة أجراها علماء جامعة كانساس (نوفمبر 2006) أن العالم المتزوج أكثر قدرة على الإبداع والإنتاج العلمي من العالِم الأعزب.


المنزل :


ومن أسمائه البيت أو السكن ، وقد أطلق العرب لفظة السكن على المنزل لأنه يدخل السكينة على صاحبه ، وفي هذا يقول الله في كتابه : " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ً النحل/80. في تعليقه على هذه الآية يقول السيد فضل الله في تفسيره: " ثم تتحرك الجولة القرآنية في آفاق حياة الناس لتدلهم على آثار نعمة الله فيها، فتدخل إلى بيوتهم، وإلى ما يسّره الله لهم من طمأنينة العيش وراحته فيها " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ً" يتخفف الإنسان فيها من جهد العمل، وتعب التنقل، ويحس فيها بأنه يسكن إلى أرض وسقف يتحقق له فيها الكثير من السكينة والطمأنينة وراحة الروح والجسد. ولعلَّ هذه المشاعر التي يستوحيها الإنسان من كلمة السكن، ومن معنى البيت في الواقع، لا يفهمها إلا الذين يفقدون البيت، وينتقلون باستمرار من مكان إلى مكان في دوامة من عدم الاستقرار. وقيمة البيت لا تتعلق بالجدران التي تحوطه والسقف الذي يظله، بل في ما يتضمنه معنى السكن في داخله، من حرمة معنوية جعلها الله له، إذ حرَّم الله على الآخرين دخوله دون إذن صاحبه، والتلصص عليه، والتجسس على ما في داخله، وأحلّ لصاحبه مواجهة كل من يحاول الاعتداء عليه بأي شكل من الأشكال، لأن الله يريد للإنسان أن يكون البيت ساحة مغلقة يمارس فيها خصوصياته الذاتية والعائلية في الحدود التي أراد الله له فيها أن يعيش حريته الخاصة" من وحي القرآن، ج13/271.


الكلمة الطيبة :


أما العامل الرابع الذي يحقق للإنسان الهدوء النفسي والانشراح حسب ما يرمي إليه القرآن الكريم فهو الكلمة الطيبة والدعاء بالخير للآخرين ، وفي هذا يقول الله مخاطبا ً النبي "ص" : " وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم" التوبة/103. والآية حسب السياق كانت في صدد الحديث عن أخذ النبي الصدقة من المسلمين ، فالله يأمره بأن يدعو للمسلمين بالرزق والطمأنينة والخير عوضا ً عن المال الذي قدّموه لرسول الله ، والدعاء من النبي بما يمثله "ص" من روحية سامية وشخصية ربانية بلا شك يدخل الأنس والسرور والسكينة في قلب المسلم حين يسمع النبي وهو يدعو له بالخير والرزق الوفير .


نستنتج من هذا أن الدعاء للمؤمن في وجهه والكلمة الطيبة التي تقال له من أهم العوامل التي تدخل السرور إلى النفس ، وتجعلها في راحة وسكينة، والصلاة في اللغة تعني الدعاء ، فعندما يقدم لي أحد المؤمنين من إخواني أي عمل وأعقبه بكلمات طيبة تحمل الدعاء أو الشكر والثناء من مثل : رحم الله والديك، الله يثيبك، الله يغنيك، مشكور ، طيب الله أنفاسك، ما قصّرت .. وغيرها من عبارات الشكر والثناء والدعاء فإنها بلاشك ستزرع السكينة في قلب من يسمعها ، خلافا ً للجفاء وسوء الخلق والصمت واللا مبالاة أو العبارات الجافة التي لا تليق بالمجتمع المؤمن .. وكثيرا ً ما نسمع في أوساطنا هذا التعبير : لا أريد منه إلا كلمة الشكر ورحمة الوالدين ، تعبيرا ً عن الاشتياق للكلمة الطيبة.


الليل :


العامل الخامس هو الليل ، فالليل بهدوئه يدخل السكينة إلى قلب الإنسان، بعكس النهار الذي يحمل الفوضى والضجيج والحركة والغليان ، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم بقوله: " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا " غافر/61، ويقول : "وجعلنا النهار معاشا " النبأ/11. فهذه حقيقة يدركها كل الناس ، إذ الليل حين يأتي فإن النفس تستقر وتهدأ ، ويشعر الإنسان براحة غريبة ، وهدوء نفسي، ويتخلص فيه من أعباء وضجيج النهار وغلواء الصباح ومشقة الحركة التي عاشها طوال نهاره .


أما السعادة كل السعادة والهدوء والسكينة كلها حين يمتلك الإنسان الإيمان والزواج السعيد والبيت والليل ولا يسمع إلا الكلام الطيب والدعاء الجميل من إخوانه المؤمنين


علي المحرقي


2/8/2012م



التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع