شارك هذا الموضوع

الإمام الصادق (عليه السلام) والفن

إن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) شهد تطورات ثقافية ومنها: العناية بتعريف البلاغة وتحديدها بصفة إن مصطلح (البلاغة) كان هو السائد عصرئذ، فضلاً عن تسرب بعض مفهوماتها (من خلال الترجمة) إلى ألسنة وأقلام الخطباء والكتاب حيث بدأ التدوين في هذا العصر نسبياً،... طبيعياً، إن الإمام (عليه السلام) وسائر المعصومين فيما كررنا بأن ما يعنون به هو: الهدف الفكري في المقام الأول، وتوظيف (الفن) من أجله: حسب متطلبات الموقف وليس مطلقاً في (المقام التالي)... لذلك: عندما يحدد (عليه السلام) مفهوماً عن الفن أو التعبير أو البلاغة: إنما يحدده في ضوء ما هو ضروري ونهائي وليس ما هو ينتسب إلى الترف ونحوه... فمثلاً ورد عنه (عليه السلام): «ثلاثة فيهن البلاغة: التقرب من معنى البغية، والتبعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير».


وورد عنه (عليه السلام) قوله: «ليست البلاغة بحدة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة».


وورد عنه قوله (عليه السلام): «ثلاث خصال من رزقها كان كاملاً: العقل والجمال والفصاحة».


الملاحظ هنا: إن الإمام (عليه السلام) يشير إلى أن الفصاحة هي واحدة من سمات الكمال للشخصية، والفصاحة تعني «المقدرة البيانية» كما هو واضح، وهذا يعني انه (عليه السلام) اكسب اللغة الفصيحة قيمة لها خطورتها مادامت تنسب إلى الكمال، إننا نجده في نص آخر يقول: «ثلاثة يستدل بها على إصابة الرأي: حسن اللقاء وحسن الاستماع وحسن الجواب». إن الجواب الحسن سينتسب دون أدنى شك إلى سمة الفصاحة أيضاً، كل ما في الأمر إن مفهوم الفصاحة أو المقدرة لا ينحصر في انتقاء العبارة من حيث إيقاعها أو إحكام تركيبها أو إخضاعها لعنصر (صوري) و(بنائي) فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى صياغة (الدلالة) ذاتها، ولذلك اكتفى (عليه السلام) في عرضه للمعايير البلاغية بتقديم ثلاثة معايير، قال بأن فيهن البلاغة، وليس أن البلاغة منحصرة في هذه المعايير، والمعايير هي: العمق والتركيز والاقتصاد: التقرب من معنى، التبعد من حشو الكلام، الدلالة بالقليل على الكثير... هذه المعايير الثلاثة تظل مرتبطة بـ (الدلالة) كما هو واضح، مما يعني أن تصور المعصوم (عليه السلام) للبلاغة يختلف عن التصور العادي لدى‌ الآخرين، فالآخرون يعنون - في حالات كثيرة- بما هو ثانوي أو زخرف أو ترف، مع أن فيها عنصراً من البلاغة أو الفصاحة أيضاً، لكن الفارق بين التصور الشرعي والتصور العادي هو إن التصور الشرعي يعنى - في المقام الأول- بالمضمون، بدليل قوله في تعريف البلاغة بأنها (إصابة المعنى وقصد الحجة)، فقصد الحجة هو: المضمون أو الدلالة، أي: يعنى بما هو جوهري، وأصيل، وضروري، دون أن ينفي (جمالية) ما هو شكلي و(صوري)... الخ، لكنها تظل (ثانوية) من حيث القيمة النهائية بالقياس إلى (الأفكار) و(الدلالات)... وهذا ما يفسر لنا السر الكامن وراء ذكر الإمام (عليه السلام) لمعايير ثلاثة ترتبط بالدلالة دون أن يذكر المعايير الأخرى التي لا ينكرها، بدليل تثمينه لسمة (الفصاحة) كما لحظنا.


والواقع أن المعايير الثلاثة التي ركز الإمام (عليه السلام) عليها، تظل معايير (ثابتة) وليست (نسبية) تخص جيلاً أدبياً دون آخر،.. وهذا ما يكسبها قيمة ضخمة‌ دون أدنى شك، فالاقتصاد اللغوي يظل معياراً فنياً لدى القدامى والمحدثين أيضاً، ولا أدل على ذلك من اعتماد المعاصرين على عنصر (الرمز) الذي يختصر الدلالات ذات الإيحاء المتعدد في عبارة واحدة أو أكثر مثلاً، كذلك نجد أن معياري: العمق، والتركيز يظلان قديماً وحديثاً أيضاً معيارين لا يختلف أي منظر أدبي أو فنان عن التسليم بأهميتهما، ولعل الإمام (عليه السلام) قد جسد دلالة (العمق والتركيز) عملياً حينما عرف الأول بقوله: «التقرب من معنى البغية»، فهو (عليه السلام) لم يقل (التطابق مع معنى البغية). إن القواعد الفنية المرتبطة باللغة، تقرر بان الألفاظ لا يمكن أن تطابق الدلالات التي يستهدفها الفنان بقدر ما تحوم وتقترب من الدلالات وهذا ما نبه الإمام عليه حينما قال: «التقرب من معنى البغية» ولم يقل (التطابق مع معنى البغية) مما يكشف مثل هذا التحديد عن عمق المعايير التي نسجها الإمام (عليه السلام)، والأمر كذلك بالنسبة إلى تحديده (عليه السلام) للمعيار الثالث‌ (التركيز أو التبعد عن حشو الكلام) حيث إن هذا التحديد يظل موضع إجماع لدى المعنيين بشؤون الفن قديماً وحديثا.


ومهما يكن، فان ما نستهدفه في هذا الميدان هو أن نشير إلى تصور الإمام (عليه السلام) لمفهوم الفن ومعاييره البلاغية‌ فيما مارس (عليه السلام) تطبيقاً عملياً لها من خلال تنظيره الأدبي الذي لحظناه ومن خلال ما نلحظه في النتاج الفني الذي صدر عنه، وهو ما نحاول الوقوف عند بعض نماذجه التي تتوزع في إشكال متنوعة من: الخطب والأحاديث، والرسائل والمقالات والمقابلات والمناظرات، وسواها.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع