شارك هذا الموضوع

الإمام الباقر (عليه السلام) ومدرسته الإسلامية

إذا كان العلم نور الله يقذفه في قلب من يشاء فما الذي يمنع عن قذف نور العلم في قلب أوليائه، هكذا كان من مصادر علم الأئمة (عليهم السلام) الإلهام، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند الله.


كذلك روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن علمنا غابر ومزبور ونكث في القلب ونقر في الأسماع، قال: أما الغابر فما تقدم من علمنا، وأما المزبور فما يأتينا، وأما النكث في القلوب فإلهام، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك.


وروى زرارة مثل هذا الحديث وأضاف: قلت كيف يعلم أنه كان الملك ولا يخاف من الشيطان إذا كان لا يرى الشخص؟ قال: إنه يلقى عليه السكينة فيعلم أنه من الملك، ولو كان من الشيطان اعتراه الفزع. وإن كان الشيطان - بأزره - لا يتعرض لصد هذا الأمر(1).


وعلم الإمام الباقر (عليه السلام) - كما سائر أئمة الهدى انبعث من هذه الروافد، فلم يكن غريباً، ما أظهر الله على لسانه من معارف الدين حتى قال الشيخ المفيد (قدس سره): لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن وسيره وفنون الآداب ما ظهر عنه(2).


من هنا نرى عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة عن الحكم بن عتيبة (وكان من كبار فقهاء عصره) أنه قال في تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)(3).


قال: كان والله محمد بن علي منهم(4).


وحكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة فلم يدر ما يجيبه، فقال اذهب إلى ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك، وأشار إلى الباقر (عليه السلام) فسأله فأجابه فأنجد ابن عمر فقال: إنهم أهل بيت مفهمون(5).


والتعبير بكلمة مفهمون كان شائعاً في ذلك العصر، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند الله يلقي عليهم الرب علماً بالإلهام.


ولذلك ترى من العلماء من يقصدونه من كل أفق بحثاً عن علمه الإلهي حتى روي عن عبد الله بن عطاء أنه قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه(6).


وقد روى عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث، أما جابر الجعفي فقد قال: حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً(7).


ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسنى للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلى جادة الصواب، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة على ما وراءها من الحجج البالغة.


1 - لقد كان عبد الله بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته، وكان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه، فقيل له: ولده، فقال: أفي ولده عالم؟ فقيل له: هذا أول جهلك أو هم يخلون من عالم؟ قال فمن عالمهم اليوم؟ قيل: محمد بن علي بن الحسين بن علي، فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة، فاستأذن على أبي جعفر فقيل له: هذا عبد الله بن نافع، قال: وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار؟! فقال له أبو بصير الكوفي: جعلت فداك، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليّاً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه، فقال له أبو جعفر: أتراه جاءني مناظراً؟. قال: نعم!. قال : يا غلام، اخرج فحط رحله، وقل له: إذا كان الغد فائتنا، فلما أصبح عبد الله بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم خرج إلى الناس وأقبل عليهم كأنه فلقة قمر فخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث، فقام الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد الله: أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين حتى انتهوا إلى حديث خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) فقال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في هذا الحديث؟ قال: هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد، فقال له أبو جعفر: ثكلتك أمك، أخبرني عن الله عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم، فإن قلت لا كفرت، فقال: قد علم، قال: فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته، فقال: على أن يعمل بطاعته، فقال له أبو جعفر: فقم مخصوماً، فقام وهو يقول: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر الله أعلم حيث يجعل رسالته)(8).


2 - وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلى رؤية الإمام الباقر (عليه السلام) ومناظراته، حيث كانت المدينة المنورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهية، ولذلك فقد انتشر علم الإمام إلى كل الآفاق..


من هنا جاء قتادة إلى المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام: أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال: ويحك يا قتادة إن الله عز وجل خلق خلقاً فجعلهم حججاً على خلقه فهم أوتاد في أرضه، قوام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلةً عن يمين عرشه. فسكت قتادة طويلاً ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك، فقال له أبو جعفر: أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأنت ثم ونحن أولئك. فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك ما هي بيوت حجارة ولا طين، قال: فأخبرني عن الجبن، فتبسم أبو جعفر وقال: رجعت مسائلك إلى هذا، قال: ضلت عني، فقال: لا بأس به، فقال: إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت، قال: ليس بها بأس إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم، ثم قال: وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة؟ قال قتادة: لا ولا آمر بأكلها فقال له أبو جعفر: ولِمَ؟ قال: لأنها من الميتة، قال له: فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال: نعم. قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة، ثم قال: فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه(9).


3 - وقد بث الإمام من علمه بين الناس حتى سمي باقراً، فقد جاء في لسان العرب أنه لقب به (أي بالباقر) لأنه بقر العلم، وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه. والتبقر التوسع(10).


وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة: سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف، وحقائق الأحكام والحكم، ولطائف ما لا يخفى إلاّ على متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه(11).


وقد أفاض الإمام على المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية، من أمثال جابر بن يزيد الجعفي، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار وآخرين.


كما أنه نشر العلم عبر من روى عنه من علماء عصره من أمثال: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي. وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والطبري والبلاذري والسلامي والخطيب وغيرهم(12).


وكان الولاة يجأرون إلى أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة (عليهم السلام) وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بهم.


من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ حيث نقل عن الكسائي أنه قال:


دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في (إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البدر شقاً، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان! قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة! فقال: سأخبرك: كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم إلى العربية ففعل ذلك، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و(شهد الله أنه لا إله إلا هو)(13)، وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى الروم، انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلى عبد الملك:


إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال:


إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية. فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول:


إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته أرفض جبينك له عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك.


فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، قال ويحك من؟ قال: الباقر من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) قال: صدقت ولكن ارتج عليّ الرأي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أَشْخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه، واحتبس الرسول قبله إلى موافاته عليه، فلما وافى أخبره الخبر فقال له الباقر (عليه السلام):


لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين:


(إحداهما) إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله (صلى الله عليه وآله).


(والأخرى) وجود الحيلة فيه، قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.


وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها سورة الملك، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس.


ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك، ويقول: إن الله عز وجل مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية.


فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال.


وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم ثم رمى يعني الرشيد بالدرهم إلى بعض الخدم(14).


إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل، إنه كان وراء إرشاده إلى السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم.


وهذا العلم كان يميز الإمام الحق عمن ادعوا هذا المقام بغير حق، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم.


وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن الله، وبالتوسم بنور الله وبتأييد ملائكة الله.


وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً وبدرجات الإمام الباقر (عليه السلام) بالذات.


فقد روى الحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: دخل الناس على أبي (الإمام الباقر) وقالوا: ما حد الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام، قالوا: فيعرف شيعته؟ قال : نعم ساعة يراهم، قالوا: فنحن لك شيعة؟ قال: نعم كلكم قالوا: أخبرنا بعلامة ذلك قال: أخبركم بأسمائكم وأسماء آبائكم وقبائلكم؟ قالوا: أخبرنا، فأخبرهم، قالوا: صدقت.


قال: وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه في قوله تعالى: (كشجرة طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء)(15) نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا، ثم قال: يقنعكم؟ قالوا: في دون هذا نقنع(16).


وينقل عبد الله بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلى الإمام الباقر (عليه السلام)، فلم يأبه بها الإمام لأن الله أطلعه على أنه معزول قريباً، يقول: سأحدثكم بما سمعته أذناي ورأته عيناي من أبي جعفر (عليه السلام) أنه كان على المدينة رجل من آل مروان وأنه أرسل إليّ يوماً فأتيته وما عنده أحد من الناس، فقال: يا معاوية إنما دعوتك لثقتي بك، وإني قد علمت أنه لا يبلغ عني غيرك، فأحببت أن تلقي عمَّيك محمد بن علي وزيد بن الحسين (عليه السلام) وتقول لهما: يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما، أو لتنكران، فخرجت متوجهاً إلى أبي جعفر فاستقبلته متوجهاً إلى المسجد فلما دنوت منه تبسم ضاحكاً فقال:


بعث إليك هذا الطاغية ودعاك وقال: ألقَ عمَّيك فقل لهما كذا؟ قال: أخبرني أبو جعفر بمقالته كأنه كان حاضراً، ثم قال: يا ابن عم قد كفينا أمره بعد غد، فإنه معزول ومنفي إلى بلاد مصر والله ما أنا بساحر ولا كاهن، ولكني أُتيت وحدثت، قال: فو الله ما أتى عليه اليوم الثاني حتى ورد عليه عزله ونفيه إلى مصر وولي المدينة غيره(17).


أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان (عليه السلام) يراقبه ويؤدبه يقول:


كنت أقرئ امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء، فلما دخلت على أبي جعفر عاتبني وقال: من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ الله به، أي شيء قلت للمرأة؟ فغطيت وجهي حياءً فقال أبو جعفر: لا تعد(18).


ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول: كنت مع الباقر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاعداً حدْثان ما مات علي بن الحسين (عليه السلام) إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان قبل أن أفضي الملك إلى ولد العباس، وما قعد إلى الباقر إلاّ داود فقال الباقر (عليه السلام)، ما منع الدوانيقي أن يأتي؟ قال: فيه جفاء، قال الباقر (عليه السلام): تذهب الأيام حتى يلي أمر هذا الخلق ويطأ أعناق الرجال، ويملك شرقها وغربها بطول عمره فيها حتى يجمع من كنوز الأموال ما لم يجتمع لأحد قبله، فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك فأقبل إليه الدوانيقي وقال: ما منعني من الجلوس إليك إجلالك فما الذي خبرني به داود؟ فقال: هو كائن، قال: وملكنا قبل ملككم؟ قال: نعم، قال: يملك بعدي أحد من ولدي؟ قال: نعم، قال: فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا؟ قال: مدتكم أطول وليتلقفن هذا الملك صبيانكم ويلعبون كما يلعبون بالكرة، هذا ما عهده إليّ أبي، فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (عليه السلام)(19).
 
الهوامش
1 ـ في رحاب أئمة أهل البيت: ص 60.
2 ـ في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر: ص 7.
3 ـ سورة الحجر : الآي 75.
4 ـ المصدر : ص 6.
5 ـ المصدر.
6 ـ المصدر.
7 ـ المصدر.
8 ـ المصدر : ص 9.
9 ـ المصدر : ص 10 - 11.
10 ـ المصدر : ص 40.
11 ـ المصدر.
12 ـ المصدر : ص 17.
13 ـ سورة آل عمران: الآية 18.
14 ـ المصدر : ص 13 - 16.
15 ـ سورة إبراهيم : الآية 24.
16 ـ بحار الأنوار: ج 46 ص 244.
17 ـ المصدر : ص 246.
18 ـ المصدر : ص 247.
19 ـ المصدر ص 249.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع