شارك هذا الموضوع

عبق السيرة النبوية

عشت لسنوات خلت مع كواكب الإسلام المشرقة واليوم نحن عند كوكب عظيم ووجه وسيم وعلم من أعلام الإنسانية نقف عنده لنأخذ من سيرته عبرة ونستلهم من مواقفه كل جوانب الخير والحق نحن عند علم على شفة الموت وجفن الحياة وبينهما مشرف الشهادة وهذه فوق الحياة والموت، لأنها عري الذات، وامتشاق الإرادة، للانهمار على بحر الله، والاندياح فيه دون شراع.


من أين نبدأ الكلام عن رجل وقف مع نفسه وقفة الأبطال، ورفع عن كاهل مجتمعه أكبر الأثقال، وعلّم المجاهدين وثبة الأجيال.


ماذا نقول عن مصلح اجتماعي كبير رسم للناس من بعده منهجاً سليماً قويماً في صراع الحق مع الباطل، وخنق الفساد وأهله. مصلح وضع خطة في مناصرة الحق والالتزام به مهما بلغت التضحيات. قاوم الظلم والظالمين بالسلاح المناسب في الزمان المناسب بجرأة قوية وهمة عتية وأخلاق نبوية.


من هذه السيرة التي تفيض بعبق النبوة نذكر بعضاً منها لحفيد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الإمام الباقر (عليه السلام).


روى الأربيلي وابن الصباغ المالكي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال محمد بن المنكدر: رأيت محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني. فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً، وهو متكئ على غلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا، أشهد لأعظنّه؟ فدنوت منه فسلمت عليه، فسلم علي بنهر وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟


قال: فخلّى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: لو جاءني الموت والله وأنا في هذه الحال وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف لو جاءني الموت وأنا على معاصي من معاصي الله. فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني)(1).


روى المجلسي بإسناده عن أبي خالد المكابلي قال:


(دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فدعا بالغداء فأكلت معه طعاماً ما أكلت طعاماً قط أنظف منه ولا أطيب فلما فرغنا من الطعام، قال: يا أبا خالد، كيف رأيت طعامك؟ قلت جعلت فداك ما رأيت أطيب منه قط ولا أنظف ولكني ذكرت الآية في كتاب الله عز وجل: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) فقال أبو جعفر (عليه السلام) إنما تسألون عما أنتم عليه من الحق)(2).


روى الأربيلي قال:


(قالت سلمى مولاة أبي جعفر (عليه السلام) كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم، فأقول له بذلك ليقلّ منه، فيقول: يا سلمى، ما حسنة الدنيا إلا صلة الإخوان والمعارف، وكان (عليه السلام) يجيز بخمسمائة وستمائة إلى الألف وكان لا يمل من مجالسة إخوانه)(3).


رووا أن قوماً أتوا أبا جعفر فوافقوا له صبياً مريضاً، فرأوا منه اهتماماً وغماً، وجعل لا يقر، فقالوا: لئن أصابه شيء أنا نتخوف أن نرى فيه ما نكره، فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه، في غير الحال التي كان عليها. فقالوا له:


جعلنا فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع أن نرى منك ما يغمنا. فقال (عليه السلام): إنا لنحب أن نعافى فيمن نحب، فإذا جاء أمر الله سلمنا فيما أحب)(4).


قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام) أقل أهل بيته ملاً، وأعظمهم مؤونة، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام)(5).


وقال أبو عبد الله (عليه السلام):


أعتق أبو جعفر (عليه السلام) من غلمانه عند موته شرارهم، وأمسك خيارهم فقلت: يا أبت تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء؟!


فقال: إنهما أصابوا مني ضرباً، فيكون هذا بهذا)(6).


وكان (عليه السلام) إذا ضحك قال: (اللهم لا تمقتني)(7).


وكان (عليه السلام) إذا رأى مبتلياً أخفى الاستعاذ (8).


وقال له نصراني: أنت بقر، قال: أنا باقر، قال: أنت ابن الطباخة، قال: ذاك حرفتها، قال: أنت ابن السوداء الزنجية، قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، قال: فأسلم النصراني)(9).


روى ابن شهر آشوب بإسناده عن محمد بن سليمان:


(إن ناصبياً شامياً كان يختلف إلى مجلس أبي جعفر (عليه السلام) ويقول له: طاعة الله في بغضكم، ولكني أراك رجلاً فصيحاً. قال أبو جعفر: لن تخفى على الله خافية. فمرض الشامي فلما ثقل قال لوليه: إذا أنت مددت عليّ الثوب فائت محمد بن علي وسله أن يصلي عليّ، قال: فلما أن كان في بعض الليل ظنوا أنه برد وسجّوه، فلما أن أصبح الناس خرج وليه إلى أبي جعفر، وحكى له ذلك فقال أبو جعفر: كلا إن بلاد الشام صرد، والحجاز بلاد حر، ولحمها شديد فانطلق فلا تعجلن على صاحبكم حتى آتيكم. قال: ثم قام من مجلسه فجدد وضوءاً، ثم عاد فصلى ركعتين، ثم مد يده تلقاء وجهه ما شاء الله ثم خر ساجداً حتى طلعت الشمس، ثم نهض فانتهى إلى مجلس الشامي فدخل عليه فسقاه بسويق ودعا له، وقال: املأوا جوفه، وبردوا صدره بالطعام البارد، ثم انصرف وتبعه الشامي فقال: أشهد أنك حجة الله على خلقه، وما بدا لك؟ قال: أشهد أني عمدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلا ومنادٍ ينادي: ردوا إليه روحه فقد كنا سألنا ذلك محمد بن علي، فقال أبو جعفر: أما علمت أن الله يحب العبد ويبــغض عمله، ويبغض العبد ويــحب عمله، قال: فصار بـــعد ذلك من أصحاب أبي جعفر)(10).


وبعد ذكر هذه المناقب الباقرية وهذه السير النبوية ليس لنا إلا أن نعيد ما قاله الحاج علي محمد علي محمد دخيل فنقول: (لو أخذ المسلمون سيرة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) للعمل والتطبيق لحصلوا على أعظم مكسب في حقل التوجيه والأخلاق، ولسادوا الأمم ولامتدوا بالإسلام في أرجاء المعمورة، ولحققوا أعظم انتصار في الحق الداخلي والخارجي. فالبشرية لم تعهد بقادتها وموجهيها وعلمائها ومفكريها على مر العصور والأجيال بمثل هذه السير الغراء وعسى أن يرعوي المسلمون ويعودوا للطريق فيأخذوا من هذا المعين الصافي، والمنبع العذب)(11).


فيا سبحان الله هل نجد أصفى من ذلك المعين الذي تغذى منه آباؤه الأطهار الذين نور الله تبارك وتعالى قلوبهم فأناروا بها الدنيا وحصنوا الدين.


وهل نجد أعذب من ذلك المنبع الذي شرب منه أجداده الأبرار الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة وسبط الرسول وريحانته، وأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب حبيب الرسول الأكرم وحامي لواء الدين من المنحرفين والملحدين والذي يدور مع الحق كيفما دار ويعمل من أجل إعلاء كلمة الواحد القهار، وجده الرسول الأعظم خاتم النبيين والرسول الذي أهداه الله عز وجل للبشرية سراجاً منيراً يهدي الضالين والمغضوب عليهم إلى الصراط المستقيم. فمن كان هؤلاء آباؤه وأولئك أجداده فليس بالغريب أن يتحلى بمثل هذه الأخلاق الكريمة والشيم الحسنة والأعمال النبيلة وهو الإمام المعصوم فرع الدوحة النبوية وأصل الشجرة التي قال عنها الله في القرآن الكريم. وهنا خطر لي ما قاله الثعلبي: (دخل أناس على أبي جعفر (عليه السلام) وسألوه علاقة الإمامة فأخبرهم بأسمائهم وأخبرهم عما أرادوا أن يسألوا عنه وقال: (أردتم عن هذه الآية (شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، قالوا صدقت. قال: نحن الشجرة التي قال الله عنها (أصلها ثابت وفرعها في السماء) ونعطي شيعتنا ما نشاء من أمر علمنا)(12).
 
(1) الفصول المهمة ص196 وكشف الغمة ج2 ص125.
(2) البحار ج46 ص297، سورة التكاثر، الآية 8.
(3) كشف الغمة ج2 ص118.
(4) بحار الأنوار ج11 ص86.
(5) ثواب الأعمال ص185.
(6) الدمعة الساكبة ص415.
(7) كشف الغمة ص211 ومطالب السؤول ج2 ص52.
(8) المصدر نفسه.
(9) المناقب ج4 ص186.
(10) نفسه ج4 ص186.
(11) أئمتنا ص 343 ج1 عن كتابه (سيرة الأئمة) إصدار منابع الثقافة الإسلامية ـ كربلاء.
(12) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص193. 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع