شارك هذا الموضوع

نداء الفقير: اتركوا لي ما تبقّى مِنّي

نتائج تقرير مُؤشّر الأمم المتّحدة للتنمية البشرية الأخير مُرعِبة. تخيّل أن «الطفل المولود في النيجر (أفقر دولة في العالم) لديه فرصة للعيش حتى فوق سنّ الخمسين بقليل، أي أقلّ بثلاثين عاما من طفل يُولد في النرويج كأغنى بلد في العالم»!


يَذْكُرُ التقرير أن «كلّ دولار يكسبه النيجري يكسب النرويجي في قِباله خمسة وثمانين دولارا. وأمام دخل الفرد السنوي في إمارة ليشتنشتاين والذي يصل إلى 85383 دولارا يحصل الفرد في جمهورية الكونغو الديمقراطية على 298 دولارا سنويا فقط»!


هذه الأرقام لا تُقال لكي نرى «هزّة كتف» من أحد ولا لكي نرى «دمعة» من مُتفرّج، بل هي مُؤشرات مُخيفة تَشِي بنهاية أمم وشعوب، وانحدار طبقات اجتماعية. إنها تعني أن البشرية تسير نحو التخريب وحالة من الإقطاعية المُبطّنة والجشع اللامحدود من الدول وحتى الأفراد.


الأكيد أن هذه المأساة مُؤشّر أيضا على حدوث هزّات اجتماعية وثورات واضطرابات قريبة في دول متعددة من العالم، وخصوصا الدول الواقعة في إفريقيا جنوب الصحراء وتلك المتورّطة في حالة صراعات مُزمنة.


حين يُعلم بأن واحداً من بين سبعة من سُكّان العالم مهاجر (أي مليار مهاجر) بعضهم يدفع 35 في المئة من دخله على مدى عامين لاستخراج وثيقة إقامة في بلاد المهجر يُصبح الأمر أكثر من خيال! إنه استعباد كامل. (راجع التقرير المذكور).


لا أريد أن أتجنّى على الدول الثريّة والدول العظمى وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية، لكنني أفهم أن ما تُعانيه كثير البُلدان والشعوب من فقر مُدقع ما هو إلاّ نتيجة لتقاسم العالم وثرواته بين حيتان السياسة والاقتصاد.


وهو أيضا نتيجة طبيعية للأفكار التي رسّختها الرأسمالية الفاحشة (وخصوصاً التجربة الأميركية) في استيلاء القوي على الضعيف والأبيض على الأسود. هذا ليس منطق مُؤامرة، بل إنه تاريخ مكتوب وواقع قائم.


في منتصف القرن الثامن عشر كان هناك 400 ألف زنجي يخدمون كعبيد لمليون وثمانمئة وخمسين ألف رجل أبيض على أراضي الولايات المتحدة. كانت العبودية جزءا لا يتجزّأ من الحياة الأميركية. هذا ما تقوله حنّة أرِنْدت وليس أنا.


لا أقول بأن العالم القديم لم يكُن يُمارس نوعا من الاستعباد أو الإفقار والكولونيالية لكن جزءا من التاريخ يقول بأن رجال الحركات التصحيحية والثورية وخصوصا في أوروبا كانوا يهتمّون بأمور أخرى قد لا تكون بنفس التوحّش الأميركي.


تصوّر بأن الولايات المتحدة مُستعدة لأن تخوض حربا عسكرية حين يُساوي الدولار الواحد المدفوع عندها خلال تلك الحرب ثمانية دولارات! وحين تُؤدّي حربا كوريا وفيتنام إلى ارتفاع الناتج القومي للولايات المتحدة 145 في المئة! (راجع ما كتبه وليام نيسكانين في هذا المجال)


ليس من الخسائر أن تُنفق الولايات المتحدة ستة عشر تريليون دولار على حربها الباردة في حين تستنكف عن دفع مبلغ خمسة وعشرين مليون دولار فقط كموازنة سنوية لجمهورية جزر القمر الفقيرة. إنه أكثر من ظلم.


هذه جذور قديمة في النسيج الاقتصادي الأميركي. في العام 1864 (أي قبل 145 عاما) قال الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن: «لقد ترّبعت الشركات على عرش البلاد نتيجة للحرب، وسيتلو ذلك عصر من الفساد، وستتركّز الثروات في أيدي قلّة قليلة».


المشكلة قد لا تنتهي إلى هذا الحد من الإفساد المالي لمسارات العالم الاقتصادية، بقدر ما هي مُتّصلة بمنهج فكري غربي تخلّق بالفوضى على أرض الولايات المتحدة، وتصقّل بين سياساتها وطواحين رساميل الأموال بها.


لقد أصبحت أجزاء من المجتمع الأميركي تسير نحو الاستثراء الجشع، وعدم الاكتراث بقضايا الشعوب الفقيرة. وإن فَعَلَت فإنها تقوم بذلك عبر منظّمات مرتبطة بلوبيات السلطة التي تُهندس اقتصاديات تلك الدول جاعلة من دورتها الاقتصادية مرتبطة بها بشكل مباشر.


بل إن دولا إفريقية باتت مُرتهنة لمنظّمات إغاثة تحمل عناوين إنسانية لكنها مرتبطة بشكل أصيل بالشركات العملاقة، التي لا تتورّع (وهي تمتلك التفويض في تلك البُلدان) في رمي مخلّفات صناعية سامّة في ساحل العاج وتُسمّم ثلاثين ألف إنسان هناك كما فعلت شركة ترافيغورا النفطية في العام 2006.


لقد أدت تلك السلوكيات مجتمعة في تحطيم النَّفَس الإنساني في الغرب، وتسبّبت برضّات فاعلة على قطاعات واسعة من ضمائر الأميركيين (ليس كُلّهم) إلى المستوى الذي جعلهم يعيشون فردية مُبتَذلة، وحياة استهلاكية صرفة لا علاقة لها بأيّ همّ إنساني قريب أو بعيد.


لم يعد غريبا على سبيل المثال أن تسمع بأن سيدة أعمال أميركية بحجم ليونا هلمسلي توصي باثني عشر مليون دولار لكلبها «ترابل» وبخمسة مليارات دولار كوديعة خيرية لرعاية ورفاهية الكلاب، في حين أن العالم يعجّ بالمسحوقين والمُعْدَمِين.


هنا يتوجّب القول بأن على الولايات المتحدة أن تُدرك وهي تتسربل بلباس القيادة الدولية للعالم، بأن موضوع الفقر والفقراء ليس ظاهره بؤس وفاقة فقط، بل إنه ينطوي على مخاطر اجتماعية جمّة ستتحوّل لاحقا إلى حركات تمرّد تعيد إنتاج موضوع الفقر على أنه مَسٌّ بسيادتهم (أي الفقراء) على حقّهم في العيش كما يعيش بقيّة البشر.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع