شارك هذا الموضوع

عِيْدُ الثَّوْرَةِ الثَّلاثون والوَصَايَا الخُمَيْنِيَّة

في احتفال الثورة الإسلامية بعيدها الثلاثين تبقى أحجيات العالم بشأنها متباينة. ففي كل عام تتسربل الثورة برداء آخر. ليبقى محيطها القريب والبعيد باذلاً جهداً ووقتاً ومالاً لفهمها مُتنقلاً من اليمين إلى اليسار.


في هذا العام أَجِدُ العالَم يتساءل: ما الذي يجعل الإيرانيين أقوياء؟ وكيف استطاعوا تخطّي الرقاب للوصول إلى ما هم عليه اليوم في العلوم النووية وعلوم الفضاء والتنمية والحضور الإقليمي والدولي؟ ولماذا لا يستطيع أن يُوقفهم أحد؟.


هذه التساؤلات باتت لغة محكيّة. هي تتحوّل من يوم إلى آخر من مُجرّد تساؤل إلى نص، ثم إلى تفسير، ثم إلى جدل، ثم إلى عقدة، ثم إلى إعادة طرح ذات السؤال، حتى تتحول إلى طلاسم يهرف فيها من لا يعرف، إلى درجة أن بعضهم اختار أن يُريح نفسه باتهامها (خَبَلاً) بالعمالة للأميركي.


من يُرِدْ أن يقرأ الثورة ونظامها السياسي فعليه أن يبدأ من إبهام رجليها. عليه أن يُدرك أن إيران اليوم لم تكن كذلك إلاّ عندما أرادت هي أن تكون هكذا. وربما يسمح لك الفحص بأن تفهم مساراتها بشكل دقيق.


فالثورة الإسلامية التي انتصرت قبل ثلاثين عاماً لم تكن لتحصل (أصلاً) لولا أنها تخطّت رقاب السياسة والفقه معاً. هي تبارت مع جمود فكري وابتذال سياسي وصل منتهاه. وأدبياتها لم تستطع تحمّل الأفهام المُستهلكة والمُقّدسة زوراً وافتراءً.


هي جاءت في زحمة العيش على «ضرورة» الفصل بين الديني والسياسي، لكي يعيش الإثنان حياة استقلال في الإجراء والأداء يُتيح لهما نمواً طبيعياً متكاملاً غير متداخل. هي لم تعترف بذلك التقسيم وفرضت نموذجاً آخر.


في السياسة لَفظَهَا العالم الغربي والعربي لشذوذ دولتها ونظامها عمّا هو سائد من أشكال الحُكم. فمن فَهِمَ أنه لا يَملك سوقاً وإنما حصّة من السّوق فقد قَبِل بالثورة ودولتها ونظامها. ومن استمرأ الكولونيالية منهم فقد تصرّف كما كانت تتصرف وزارة شئون المستعمرات البريطانية مع البلاد والعباد.


وفي الفقه ارتعش التقليديون والتجديديون سُنّة وشيعة من هَوْل ما جرى. فمن استطاع منهم أن يفهم أنه مع الآخرين يبني تعاليم دينية فقد ارتضاها كثورة إسلامية. ومن تَنَرْجَس وادّعى أن دين الله يسير ببركات يديه ورُشْدِه فقد عافها واختار المناكفة والضّد، خالداً بذلك إلى الأرض، كما أخلد إليها «بلعم بن باعورا».


وما بين متطلبات السياسة ومتطلبات الدين حدث التغيير. فقد جرت العادة أنك في السياسة يُمكن أن تُقدّم تنازلات للوصول إلى حلّ وسط، أما في الدين فلا يُمكن ذلك لانتفاء الزمكانية من التفكير. جاءت الثورة وعظّمت ذلك المرتكز لكي يتمجّد الدين ولا تتكلّس السياسة.


بالنتيجة فإن من يرى الجمهورية الإسلامية اليوم بقوة وعزيمة فلأنها كانت منذ بدايتها كذلك، في سياستها وفقهها. ومن يراها اليوم دولة مُتأدلجة في عالم مفتوح فلأنها كانت كذلك أيضاً. آيدلوجية قابلة للبناء والتغيّر.


في ظروف الثورة الأولى استطاعت نخبتها أن تجتاز دولة ومجتمع الانتقال. وكان ذلك الاجتياز مُتّكِأً مرة على مؤسسات العهد القديم حيناً، ومرة على أكتاف الكاريزما الخمينية التي كانت قادرة على استيعاب الإخفاق الثوري وجَبْرِه.


لكنها لم تَخلُد إلى هذه الإحالة بشكل مُطلق؛ فقد عَمِلَت على إعادة الشرعية القانونية للنظام على أسس دستورية ناهضة. فلم تتأخّر الثورة في بناء الدولة وإجراء الانتخابات حتى أثناء سقوط الصورايخ العراقية على العاصمة طهران.


اليوم باتت الشرعيات السياسية لا تتأتّى من الإجراءات بقدر ما تأتي من الأداء كما يقول بروس جنتلسون. ففي عالم جرفته شعارات الدمقرطة الأميركية لم يعد بمقدور الشعوب أن تتحمّل الإفقار والفوضى وضياع الأمن والتبعية في سبيل المغامرة لنيل الحريّة.


لن يقبل شعبٌ أن يقدّم مليون قتيل وأربعة ملايين مُشرّد ومُهجّر من أجل أن يستطيع أحد الناس رمي حذاءٍ على رئيس الولايات المتحدة. إنه ثمن لا يُساوي سلعة أبداً مهما بلغت جودتها. إنها معادلة ساذجة وخرقاء.


في الهند وبُعيد التفجيرات الإرهابية التي حصلت في مومباي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي خرج عشرات الآلاف من الهنود في تظاهرة مُندّدة بحكومة مانموهان سينج. بعض المتظاهرين قال «ألقوا جميع الساسة في البحر» وبعضهم قال «نريد أن يحكمنا الجيش» وبعضهم قال «نُفضّل الكلاب على الساسة».


لا أقول إن حكومة الهند اختارت الديمقراطية على حساب الأمن والبناء، بالعكس فهي دولة مدنية ناهضة ونِدّية مع جيرانها ومحيطها بل وحتى للغرب، ولكن ما أقوله هو الاستدلال في أن محكيّات الناس اليومية وهمومهم ومقاسات معيشتهم لها وجاهة معتبرة أكثر من أي شيء آخر.


إيران فطنت لتلك المعادلة جيداً. هي تقيم نِسَب وازنة في سياساتها الداخلية والخارجية لكسب منظّم. لا الإيغال في الآيدلوجية مُجدٍ ولا التفريط بها مفيد. وكذلك تكثير وتسييل الخدمات للناس بشكل استهلاكي هو أمر غير نافع. هو مُرهق كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية.


إيران الثورة لم تتصارع آيدلوجيتها ومتطلباتها مع احتياجات الناس. وحتى مقولة «الحماية من الحكومة وبواستطتها» كما كان يُحب تظهيرها ستيفن ويبر بهذا الشكل، أدركتها الثورة ومارستها بشكل احترافي.


لذلك فإن هذه المَنَعَة جعلها لا تترك إثنياتها وأقوامها وطوائفها المتعددة والتي تهجع في مكامن جغرافية حدودية (وهي الأخطر) للالتفات إلى «احتراب هويات» تعيش على الأسئلة الخالصة القائمة على الأنا والأنْتَ والهُم.


ففي إيران تتواجد القوميات الفارسية والآذرية والكردية والعربية واللورية والبلوشية. وهي تتمدّد مذهبياً ما بين إسلام شيعي غالب وآخر سني أقلّي، وبين مسيحية آشوريّة ومسيحية كلدانية ومسيحية أرمنية، وبين يهودية وزرادشتية.


هذا الموزاييك القومي إن ضُبِطَ محلياً جاز أن يُستَفَزَّ خارجياً، أو أن يُجيّر استخباراتياً كما كان يطمح جورج بوش بملايينه الأربعمئة التي خصّها لزعزعة النظام الإيراني من خلال طوائفه وشعوبه واستنهاض أنويتها المتباينة.


وربما لا يُعرف مدى خطورة هذه التقسيمات إلاّ من أدرك تفصيلاتها، ووقف على احتياجاتها في اللغة والتاريخ والدين والأعراف والهويّة ومتطلبات التجاور بالتعايش. والإيرانيون يستحقّون درجة الامتياز في ضبطها.


لقد أدركت الثورة الإسلامية أن السياسات عادة ما تجري وفقاً لمحددات متعددة. فالاستخبارات تُحسّن السياسات. وموازين القوى تُعيد صياغتها. والأحزاب تقلبها، والهزائم تكسرها، والانتصارات تزيد من خياراتها.


فالأمن الإيراني يُمكن أن يطير في مهبّ الريح بسبب جيرة قلقة تبدأ من الشرق حيث باكستان وأفغانستان، وانحناء للشمال حيث تركمانستان وأرمينيا وأذربيجان وانتهاء بالغرب حيث تركيا والعراق، أو بسبب خصومة سياسية مع أكثر خلق الله شراً، لولا قدرة أجهزة الدولة (الأمنية) على فَتْلِ تعقيدات جيوبوليتيكها لصالح سياسة أكثر استقراراً.


وفي موازين القوى حديث لا ينتهي. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، وغزو العراق للكويت، وسقوط نظامي حركة طالبان وصدام حسين، والسياسات الإيرانية تسير من تثمير إلى آخر.


موازينٌ للقوى جديدة. خلقتها ظروف قتال الأعداء مع الأعداء. وتحوّل الأعداء إلى أصدقاء. والأصدقاء إلى أعداء الأعداء. وأعداء الأصدقاء إلى أصدقاء. وما بين مجموع العداوات والصداقات وفي امتداداتها وانكماشاتها تكمن المصالح.


في كل الأحوال تبقى الثورة الإسلامية وهي تسير في عامها الثلاثين محل جدلٍ كما كان عامها الأول. وهي تبقى كذلك لأن فِعلها مؤثّر وصداها مسموع. وربما تكون انتصاراتها مُضاعفة في كل جولة، كما هو الحال بالنسبة إلى خسائرها.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع