شارك هذا الموضوع

لا حَاجَةَ إِلَى سِيَاسَةٍ مِنْ دُوْنِ سِياسِيّين

لا حَاجَةَ إِلَى سِيَاسَةٍ مِنْ دُوْنِ سِياسِيّين


يقبض المرشد الأعلى في إيران على سماطي الهوية. في الدين هو مرجع تقليد وفقيه، لكنه يختلف عن أقرانه من المراجع؛ لأنّه يحكم ويسود. فهو إلى جانب درسه الفقهي التقليدي بين طلابه، يقرأ يومياً خمسة من تقارير النمط السياسي.


تقرير بشأن السياسة الخارجية لبلاده والإقليم وانتهاءً بآخر جرف قاري. وتقرير ثانٍ عن الوضع الاقتصادي. وتقرير ثالث بشأن الوضع الأمني والاستخباراتي. وتقرير رابع عن الوضع العسكري. وتقرير خامس بشأن الأوضاع الدينية في العالم.


في السياسة الإيرانية هو الرجل الأوّل في الحُكم. لكنه يختلف عن بقيّة السياسيين في كونه الأقدر على شطر منهجية الحكم الذي ينتمي إليه، وإقامة البرزخ اللازم للتمييز بين الدين والسياسة. كما أنّ سقف الرقابة عليه والولاية منه تتباين.


هو بعيدٌ عن تفاصيل السياسة المحكيّة لبلاده. لكنه قادر على تعبيد مساراتها المُثلّمة. وعندما يُغيّب الجنون السياسي وترفه بوصلة رجال الحكم في السلطتين التنفيذية والتشريعية في إيران يكفي؛ لأنْ يتحدّث بضع كلمات ويُنهيه كما حدث في أزمة الأهليّة في يناير/ كانون الثاني 2004 بين مجلس صيانة الدستور الحكومة، وقبلها حول قانون الصحافة إبّان البرلمان السادس.


هو قريب جداً من تفاصيل السياسة الدولية. يهمّه كثيراً أنْ يجد الأميركيين يألمون. ويهمّه أكثر أنْ يجد مشاريعهم تبور. ولا يجد غضاضة في تكثير المتعضيات بجانبهم وأمامهم لزيادة الارتباك والإعاقة وتظهير الفشل.


في التاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2007 اضطرب العالم الصناعي عندما قال آية الله العظمى السيد علي الخامنئي لسكرتير مجلس الأمن القومي الروسي إيغور إيفانوف (ولاحقاً للرئيس فلاديمير بوتين) "إنني أرى من مصلحتنا إقامة كارتيل للدول المنتجة للغاز".


كان المرشد يُدرك أنّ الولايات المتحدة وأوربا تعتمد على 44 في المئة من حاجاتها من الغاز على روسيا. كما أنّ عينه كانت تقرأ أنّ الغاز الطبيعي مازال يضرب بعمقٍ طاقي عالمي يزيد عن الثلاثة وعشرين في المئة، بعد النفط (36 في المئة) والفحم الحجري (26 في المئة)؛ ليصل المجموع إلى 85 في المئة؛ لتتوزع الباقي على مصادر أخرى.


اليوم وبعد مُضي أكثر من سنة وتسعة أشهر على اقتراح آية الله الخامنئي. بدأ الروس في التعاطي مع هذا الاقتراح بجدية أكثر، بعد أحداث جورجيا واتساع رقعة الخلاف مع الغرب حول مناطق النفوذ في القوقاز. وهو ما فسّره اجتماع وزراء الطاقة في الحادي والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لكلّ من إيران وروسيا وقطر.


كان ذلك الاهتمام الإيراني قد دفع بالكونغرس الأميركي؛ لأن يتبنى مشروع قانون للتصدّي لمحاولات تشكيل كارتيل الغاز في الحادي والعشرين من شهر يوليو/ تموز 2007 جاء فيه "اقترح المرشد الروحي الإيراني علي خامنئي أنْ تتعاون روسيا وإيران على إنشاء كارتيل للغاز اهتمّ به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأنّ المسئولين الإيرانيين أبدوا اهتمامهم باستخدام كارتيل الغاز في حال إنشائه كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية".


في معالجته للعقوبات الدولية، أدرك المرشد الأعلى في إيران أنّ أيّ عقوبات يُرتجى منها أنْ تكون فاعلة تتطلب أربعة أمور (1) المدى الشرعي للعقوبات ومدى توافقها مع القوانين الدولية والأخلاقية (2) مدى تأثير العقوبات على الدولة المستهدفة (3) مستوى التوافق الدولي على العقوبات المفروضة (4) منسوب القوّة لهذه العقوبات لجعلها رادعة.


لقد كان آية الله الخامنئي حريصاً على تقديم برنامج بلاده النووي بشكل سلمي؛ لإفشال غاية العقوبات وقد نجح في ذلك إذا ما رُجِعَ للخطاب السياسي الإيراني وإلى تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.


فقد اتبع سياسة "التقطير المعلوماتي لدرء الأسوأ" في المفاوضات وليس لإثبات حُسن النوايا. وفي موازاة ذلك تمّ إحالة الملف النووي إلى أربع جهات رئيسية داخل النظام. وزارة الخارجية، المجلس الأعلى للأمن القومي، وكالة الطاقة الذرية الوطنية الإيرانية والجهاز المختص بمكتب المرشد.


كان ذلك التوزيع في التقييم والتقويم عاملاً رئيسياً في جعل القرار النووي الإيراني يخضع لعدّة تحسينات قبل تقديمه للمسار الدبلوماسي. بحيث يستوفي متطلباته السياسية (عبر وزارة الخارجية) والأمنية (عبر المجلس الأعلى للأمن القومي) والتقنية (عبر الوكالة الطاقة الذرية الوطنية الإيرانية) والإشرافية (عبر مكتب المرشد).


وقد أدّى ذلك لفشل التقارير الدولية؛ لأن تُجرّم إيران. وخصوصاً التقرير الأخير للبرادعي الذي صدر في سبتمبر/ ايلول الماضي والذي نصّ في إحدى فقراته "الوكالة لا تملك أية معلومات، ولا تستطيع أنْ تُثبت أنّ طهران قامت بتشييد تصميم ناجز بهدف صنع مُكوّنات لمواد نووية قد تُستعمل في السلاح النووي أو ملحقاته".


لقد أدرك آية الله الخامنئي بأنْ تمييع تلك العقوبات وشرخ التوافق بشأنها وإضعاف قوتها لن يتأتّى إلاّ من خلال العمل السياسي والأمني والاقتصادي بشكل متوازٍ. وقد أفلح ذلك في جعل الموضوع مُنجزاً لاستحصال نتائج جيّدة (راجع مقالي 4 و11 أغسطس/ آب الماضي بجريدة الوسط).


الأكثر من ذلك فقد أشار كلّ من المركز من أجل التقدم الأميركي ومؤسسة كارنيغي للسلم الدولي في سؤال طرحاه على 100 شخص من خبراء السياسة الخارجية الأميركية ممن أداروا الجهاز الأمني بواشنطن على مدى الخمسين سنة الماضية: كيف خدمت سياسة الولايات المتحدة الأميركية حيال إيران أهداف الأمن القومي للولايات المتحدة؟


حيث كانت الإجابة أنّ تأثيرها كان سلبياً وبشكل متصاعد. ففي إبريل/ نيسان 2006 كان التأثير السلبي هو 60 في المئة، وفي يناير 2007 كان التأثير 71 في المئة، وفي يونيو/ حزيران 2007 كان التأثير 73 في المئة، وفي مايو/ أيار الماضي كان التأثير 81 في المئة. بل إنّ هذه السياسة الأميركية تجاه طهران لم تحظَ إلاّ بـ 2.8 من 10 درجات من القييم.


في كل يوم يُمسي الحدث الإيراني شاخصاً. المُترشّحَان الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة يتباريان في كيفية معالجة الملف الإيراني. حزب العمّال والمحافظين في بريطانيا كذلك.


الانتخابات الإيرانية مازالت تنتظر مضي أكثر من سبعة أشهر لكي يحين موعدها، لكنني أجد العالم كلّه يترقبها وكأنّ نتائجها ستظهر غداً. إنّ هذا الاهتمام المتعاظم بإيران ليس مردّه إلاّ صعود إيران كقوّة مركزية في هذا الإقليم. وهي القوّة التي لم تكن لتتشكّل لولا وجود منظومة متداخلة من الاستراتيجيات وطبقة سياسية واثبة.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع