شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (44) - العمر ستون

العنف يعصف بالبلاد ... النار منهمكة في أكل يابسنا بعد أخضرنا ... دوّامة الدمار لا تنفك من الدوران على أجسادنا وبلادنا ...الخراب مقترن بالخوف والرُعب ... ولا نجد من السلطة إلا الجبروت والكبرياء والاستعلاء ... وبركان الغضب الشعبي مُتصل ببعضه ...


حسينٌ أيها البركان في عاشور ... قصيدة تبعث شرارة الحماس الشعبي وتُضفي عليه بُعداً حسينياً ... قدّمناها ثُلاثياً ... حسين أحمد ومهدي سهوان وأنا ... الظاهر أنّ مهدي لم يجد الوقت الكافي لإتقان اللحن ... مُشاركاته الأخرى تُزاحمه ... هُنا تقع سلبيات الثُنائي غير المدروس ... وغير المهيأ بدقة ...


في موكب الديه كثيراً ما نُشارك في زحمة المواكب المتلاحقة ... بقصيدة جديدة شاركت هُناك ... هيهات أن ننسى حسينا ... هُناك في رحاب جارتنا الديه ... تكتظ المواكب متزاحمة ... لم نعتد على إعداد القصائد الجديدة لذلك الموكب ... ننتخب ما بسطته لنا الأيام السالفة من قصائد ناجحة...


ولا نزال مُجدّين في إخراج الناشئة الجُدد في الموكب ... سيد ناصر شرف صوت واعد ... استخلصناه من موكب أبناء الرسالة كما استخلصنا غيره ... في البدء جعلناه يردد المستهل معنا في قصيدة ... واصلي دور الكفاح ... كوسيلة لكسر حاجز الرهبة والخجل ...


وها قد حان وقت المشاركة بالمرافقة ... غريب الأوطان يعاني ... قصيدة في ذكرى استشهاد الإمام الرضا (ع) ... ليسهل عليه حفظ اللحن والأداء ... وكطريقة سهلة لتقمّص الأداء سجّلت له النص كاملاً في شريط كاسيت..


... تمت المشاركة وانتهت ... إنما ما تفاجأت به هو ذياع الشريط وانتشاره لدى الناس ... ولا يبدو إلا أنّ السيد أحسن الظن في بعضهم وأعطاه الشريط ... وأخذ الشريط طريقه إلى النسخ ... هذه حالة غير جيدة ... الشريط غير مُعد للانتشار إنما هو للاستهداء به ... بهذا تعرف أنّ الأمور لن تبقى بوثاقك إن خرجت من كفك ...


وفي خضم المواكب والمشاركات لا يعتني السامعون للمقومات الحقيقية لنجاح العمل ... بعد لأي من الوقت يستطيع العمل ذاته إبراز قوته بين باقي الأعمال ... أولادي بقوا عندك ... موشح لوفاة الزهراء (ع) ذهب بعيداً ... وبعد زمن أصبح الناس يُرددونه ويُذكرونني به ... لجمال ما فيه من ابتكار ... ولتألق أنفاسه المؤثرة في القلوب .


ونحن نحيي مناسبات الوفيات لا يغيب الموت عن ذاكرتنا ... يبقى في جماجمنا خياله ذاهباً وعائداً ... قدمنا ثُنائياً جميلاً ... جعفر سهوان وأنا ... أحيا وإن مت على حب الأئمة ... القصيدة ذات لحنين لوزنين مختلفين ... مررت فيها بحياة الإنسان إلى ساعات الاحتضار ...


العمر ستون وإن زادَ قليلا ... مستذكراً حضور الإمام علي (ع) عند الميت كما في صحيح الروايات لدينا ... وصنعت صورة خيالية تعبر بي إلى عالم الأموات ... متصورا دخولي هذا العالم جزعاً ... بعد أن أوصيت أن يُدفن قميصي الأسود تحت رأسي ... علامة على حبي لأهل البيت وانشدادي مع أحزانهم ...


في ذلك العالم رأيت المصطفى والمرتضى والزهراء والحسنين ... آنسوا وحشتي ... ولمحت آثار الأحزان عليهم ... ولمّا سألت أجابوني بأنها وفاة الهادي (ع) تعود ذكرى لهم في الدنيا ...


برباطٍ قهري تربطنا الأحداث ببعضنا ... فنحن في خندق واحد ومصيرنا واحد ... نعيش الألم الواحد ونشعر به في لحظةٍ واحدة ... ويُداهمنا اليأس من نيةٍ حسنة لدى السُلطة ... بالعودة إلى سلطة الأمويين والعبّاسيين ...


بهذا نعقد المُقارنات بين الدُول ... بحكم التشابه في الوجوه بين من يجلسون على العُروش ... لا تطلب عدل منهم كلهم ظالمين ... وقفة أججت في النفوس غضباً يأخذهم إلى تعسف بني العبّاس ويُعيدهم إلى أيامهم ...


في تلك الظروف المُتوترة أقدمت قوات الأمن على فعل أحمق ... أضاف إلى النفوس غيظاً عليها ... في ليلةٍ ظلماء أقدم مرتزقة السلطة على التعدي على مآتم ومساجد القرية ... بتصرُفات غوغائية هشّموا زجاج النوافذ ... وكسروا كل ما وقع بقبضتهم ... بأحذيتهم دخلوا المساجد ... وكأن المساجد تختص بمذهب دون مذهب ... عبثوا بالتربة الحسينية ... حيث رأينا آثارها ممسوحة بالجدار ... كثير من الناس من خلف نوافذهم شاهدوهم ... حقداً وحنقاً فعلوا ذلك ...


الجيل القادم إذا لم يكن رأى فالصور شاهدة باقية ... تُريه آثار الجرائم النكراء ... ومن عجب أن القضية مرّت وكأنَّ شيئاً لم يكن ... لم تُحقق العدالة المزعومة في ذلك ... وكيف يُحقق الخصم ؟ ... وكيفَ سيُعطيك حقاً؟... ولا بُد أن ينكروا ذلك ... فلا يسعهم أن يؤكدوا مظلوميتنا في بلد لا يحترم عقيدة شعبه ...


أحد الرجال صادر رجال الأمن إطارات كثيرة بالقرب من منزله ... ذهب صباحاً للمطالبة بها ... هو صاحب كراج ويحتاجها ... نفى الضابط أنّ رجاله صادروها وادّعى أنّ الشباب الذين يخرجون ليلاً هم من أخذوها ... فهم يحرقون ويخربون ... وللتو منذ فترة خربوا المساجد واعتدوا على المآتم ... كان هذا كلام الضابط كاذباً ...


انتفض الرجل واقفاً وقال:يكفي... إن ما تقوله باطل مئة بالمئة ... نحن لا يُوجد في عقيدتنا أحد يتجرأ على المآتم بسوء ... أسوأ من لدينا أولئك السكيرون ومتعاطو المخدِرات ... وهؤلاء إذا نادى المُنادي ياحسين يلطمون صدورهم ويبكون ... فما بالك بغيرهم ... ثمّ أني بعينيَّ هاتين من نافذة منزلي رأيت رجالكم يُلملمون إطاراتي ويُصادرونها ... أسقط في يد الضابط ... وبهت الذي كذب ...


نحن حسينيون ... نحن رساليون ... قصيدة خرج الموكب بها في غير وضع آمن ... جاءت الأنباء أنّ سيارات الأمن تعترض طريق الموكب ... صمّم الأخوة على الخُروج دون وضع اعتبار لهم ... فنحن نُحيي شعائر من عقيدتنا ... ولا يسعهم التعرض لنا ...


انطلقت الحشود تهدر صدورها باللطم الملتهب ... وأصواتنا بالجواب المُفعم بالإباء ... لمّا وصلنا عند مسجد الجوادين تنحت سياراتهم للوراء مفسحة الطريق للموكب بالمرور ...


الموكب كان كتلة من نار تضطرم ... القصيدة تعرضت للهجوم على بيت الزهراء (ع) ... وهتك مسجد الرسول بواسطة مسلم بن عقبة ... وكثير من الحوادث التاريخية التي عادت صورها في وضعنا ... وطريقة النص تحمل وجهين ... وجه للخلف في الماضي ... ووجه للأمام في الحاضر ...


الكل كان مدركاً لما تحمل القصيدة من هم ومعاناة للواقع ... فالصور متشابهة ... والتاريخ يُعيد نفسه ويطبع صورا طبق الأصل ...كما أرى أجدادنا مسلسلات من الألم والحرمان ... جاء يُرينا نصيبنا من الألم ..

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع