شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (37) - أزفت لحظة الوداع

الكراهية مخلوق لا يُجيد الوئام ... أجمل ما يمكنها إيصالك له أن تضعك في الهاوية ...كلما تشعبت مسالكها أتعبت حاملها ... أجملها كالفأس تأكل في جسد صاحبها ... معتوهٌ من يزدرد غيظاً يؤذي به معدته ...


لما نزل في الأشهر الأخيرة من عام 1411هـ ... ومع ما تعانيه الطائفة من كبت وتضييق أثناء زيارة قبور أئمتها ... فاضت القريحة بهذه الوقفة ... جميعاً نضج واإسلاماه ... بطشت كلماتها بالسلفيين ... وأنكرت ما يقومون به من أذى للمسلمين بصورة عامة ... وللشيعة بصفةٍ خاصة أثناء التوجه للبقيع ...


فيها تصريح وتنديد بمذهبهم ... ولا عظات تجدي في من هو وهّابي ... ليلاً ألقيتها ... وما إن تسلل النهار إلى قريتنا حتى جاء أمر الإستدعاء للحاج محمّد على مرهون بالمثول أمام مركز الخميس ...


ما أسرع الرسل بالسوء ... لم تشرق الشمس بسعاتهم إلا وأخبارنا في ملفاتهم ... وعاد الحاج من المركز ليعقد اجتماعاً طارئاً للإدارة ... لوّمني وعنّفني على كلماتي القاسية الصريحة تجاه تيار تُسانده أجهزة الدولة ...


بسط لنا ما دار بينه وبينهم ... وتعهده بعدم تكرار الأمر تلافياً لملاحقاتهم .... ولم يمر الحدث دون شيء يُذكر ... أمر الحاج أن أوقف عن المشاركة لمدة مناسبتين متتابعتين تفصلان بيننا وبين محرم الحرام ... الحنق أكلني حينها ... ولا أستطيع ابتلاع العقوبة بسهولة ... ولم يشفع لي كوني إدارياً ...


الذكرى التالية كانت من نصيبي للمشاركة ليلاً في موكب المسير ... القصيدة التي أعددتها أعطيتها هي بلحنها لحسن المعلمة ... ليلقيها عِوضاً عني ... كما أسلفنا هو بارعٌ في حفظ الألحان بجدارة ...


بعد مرور سنوات تمكنت من استيعاب الموقف ... العقوبة التي نالتني أفادتني ... استطعت أن أكون أكثر دِقةً في نظم الكلمات ... وأن أستخدم التلميح عوض التصريح ... ويبدو أنَّ الحاج كان ينوي إبعادي عن مسامعهم وتركيزهم ... أولئك المتنصتون لكل كلمة من أفواهنا ... وهكذا كان موقف الإدارة مع أكثر من رادود ... إجراءات وقائية .


ولم أستطع التوبة عن مهاجمة من يهاجموننا ... بقيت محاربتهم ماثلة في خلدي ولا تفارقني ... ولا بد من مواصلتها ... أعدت الكرّة ثانية بسلاح آخر ... إن كان التصريح أضرني فلن يكون ناجحاً إلا التلميح ... ولم يمر عام إلا وأنا عائدٌ بوقفة من نفس الوزن السابق تقول ... وقبلها قد قلنا ... ولا عظاتٍ تجدي ... إشارة إلى صدر البيت الفائت ... حيث جعلته في هذه الوقفة عجزاً ... ولا يحتاج إلى تكملة ... وإنما نهايته تقودك إلى الوقفة السالفة ...


وهذا فن في إتقان التلميح ... والوصول إلى الغاية المنشودة من النص ... عرفت من هذه التجربة ضرورة اعتماد المعميات والتلميح المبطن عوضاً عن المكشوفات والتصريح الفاضح ... وتعلمت أن الكناية بهذه الصورة تجعل الشعر لذيذاً ممتعاً ... أفادتني العقوبة في التشدد في سبك النص ... والإصرار على اختيار المُفردات بعناية ودقة ...


في محرّم الحرام تتوزع المشاركات بين المأتمين ... نوزعها بتنسيق وجدولة مرتبة ... في عام 1412هـ نلت أول مشاركة داخل مأتم السنابس ... بعد قطيعة سنوات ... بحماك وياك ... بدأتها بهذه القصيدة ... حينها بدأ المأتمان في التنسيق بينهما ... يتقدم مأتم بن خميس ... يصل إلى مسجد الجوادين فيتجاوزه بعد أداء الوقفة ... ويعقبه مأتم السنابس ... حلقتان متتاليتان ... تراعي كلٌ منهما الأخرى في السرعة والبطء ... وفي إسراع الحركة كي لا تحجز الطريق عن الحلقة الثانية ...


ونحن بدورنا كرسل بلاغ وأصوات حسينية نتنقل من موكب لآخر ... كل من الرواديد له مميزاته ... البعض يبرع في ابتكار المستهلات أقوى من الفقرات التالية ... وهكذا هي الألحان على وجه العموم ... لا تأتي قوية كاملة من ألفها إلى يائها إلا في القليل النادر ... فهذا يحتاج إلى تمحيص وتدقيق ... وأزعم برأيي أن الألحان خدّاعة ... أحياناً تقدر الجمال في لحن ... ويصدمك تنفيذه في الواقع بفشل قدرته على النفاد إلى النفوس ... وأحياناً يكون المحيط عاملاً قوياً في الإنجاح والإفشال ...


في تراث قريتنا كثير من الثوابت حينها ... نشأنا ونحن نسمع ... قوم يبن العسكري شيل العلم ... يرددها الكبار ... قصيدة محفوظة في الصدور ... يتلونها من قفص صدرهم مباشرة ... القصيدة للمرحوم حسين بن خميس (أبو علي) كان يُلقيها في ليلة عاشوراء ...


لا أعلم النص لمن بالضبط ... إنما هذا ما كنا نسمعه والعهدة على الراوي ... أفضل من سمعته يؤديها الحاج حسن راشد ... يقف أمام اللاقط ... ليلة العاشر مع مقاربة ختام موكب الداخل ... يضع صفحة يده بمحاذاة أذنه... وتنطلق حنجرته تُعيد الأبيات المحفوظة ... المشاعر تنجذب لتلك الكلمات ... سيما وهي تستنجد بالغائب المنتظر ليرى ما حلَّ بجده وعائلته يوم عاشوراء ...


ولا يفوته أيضاً ذكر القصيدة الثانية ... زينب تدعو أباها... علي حيدر ... يا صاحب الكوثر ... هذا حسين شهيد ... كذلك هذه الفقرة يزداد الإنفعال العاطفي معها ... بدوري أنا حين كانت لي مشاركة لأول مرة في ليلة العاشر ... تولّعت بالقصيدة الأولى ... أضفت أبياتاً جديدة لها وأعدت إلقاءها من جديد ... فطبعي لا يُحب تكرار المكرور مع وجود القلم في جيبي ...


ليلة العاشر هذه تتملك النفوس ... تبذل النفوس فيها كل ما لديها دون شعور ... يتحرّق الشيعة اللاطمون لمواساة أهل البيت فيها ... الواقعة حدثت عصر عاشوراء ... لكننا نشعر بها ليلة عاشوراء أكثر ...


مع هبوط الظلام ... واستتباب الهدوء يكون للحزن وقعٌ مختلف ... وطعمٌ مرير ... ففي تلك الليلة ختموا وصاياهم ... وتيقن الفاقد من الفقيد ... إذن في تلك الليلة تأزف لحظات الوداع ... ولا بُدّ لنا في تلك الليلة من التوديع ... هذا الوداع يا حسين ... نصٌ يلقيه الرادود ... فتنهمر عليه أصوات الجمهور ملبية بنفس الصوت ... وتضاف له عدة فقرات يرددها الرادود ... حرقوا اخيامك يا حسين ... سلبوا حريمك يا حسين ...


أضفت نصاً جديداً من الأبيات الطويلة لها ... شيعتي إنَّ العدا في كربلاء قتلوني ... ثم أعود للقفل الرئيسي ... كانت العملية حركة تجديد في ما هو متوارث ... لكسر الرتابة وإضافة ما يستجد على الموروث ... كانَ هذا في عام 1412هـ ....

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع