شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (36) - شيطانٌ يواجههُ شياطين

إبقاء شيء من أسرارك في سرك يحميك ... ومن يعرض كل مال لديه يستهلكه الآخرون ... ولا يبقى له لحين الأزمة ما يلجأ له ... ضع نغمة في أوتارك تحافظ على لحنك ... وفي عالم العلاقات كما في عالم الماديات ... تمام الإفصاح يؤدي إلى الندامة ... وتمام البذل يؤدي إلى الندامة ... دع شيئاً من أبيضك لأسودك ..


بعدما آزره الخليجيون بكل ما أوتوا من مال ... دول الخليج مجتمعة أسبغت عليه من أموالها سيولاً ... ودعمته بالكلمة الزائفة ... مع كل هذا وما إن انتهى من حربه مع إيران حتى توجه تلقاء الكويت ... كما لم تغفر لإيران وحدة الدين والجوار ... لم يغفر للكويت وحدة اللغة والجوار ...


كان جزاء لدول الخليج المتعاضدة على الظلم أن يعكر أمنها صدّام بحربٍ تحول ليلهم أرقاً ... أعطوه من أموال شعوبهم ما هي بحاجةٍ إليه ... لكي يقضي على ثورةٍ فتيةٍ في مهدها ... غضوا أعينهم عن أطماعه فيهم ... وصوبوها لوهم شجعهم على تصديقه الكبار ...


وكما في الحديث القدسي ... الظالم جنديٌ أنتقم به وأنتقمُ منه ... هذا هو حامي البوابة الشرقية ... وبطل القادسية ... الذي لو تفوه أحدنا بحرفٍ ينال منه لعوقب وقتها ... هجم على الكويت وشرّد الأبرياء ... وأحالَ وطنهم إلى أرض يُعشعشُ فيها الخراب ...


كانَ هذا في يوم الحادي عشر من محرّم الحرام 1411هـ الموافق 2 أغسطس 1990م ... بهجومه على الكويت غير المعادلة لدى حُكّام الخليج ... وأصبح أخطبوطاً تخشاه الدول المجاورة ... وهرعت أساطيل الدولة العظمى أمريكا إلى مياه الخليج ... واستنفرت قواعدها القابعة في الدول الخليجية ...


استبد الرعب بالمواطنين ... فهم أمام شيطانٍ يُواجههُ شياطين ... الناس بين فكي بلاء ... بين الدمار والخراب أو الموت ... وجاءت ذكرى وفاة الهادي (ع) في الثالث من رجب ... وبدأت الحرب المضادة لصدّام ... دمّرت الطائرات بغداد ... وراح صدّام يغوص في بحر هلوساته ...


أصرّينا على إحياء الذكرى ... وصواريخ سكود وباتريوت تعبث بالفضاء ... وصفّارات الإنذار تصمُّ الآذان ... لدينا يقين بأننا محفوظون ... وسنحيي الذكرى على أنغام الصواريخ ... ورحنا نقتحم المجهول ... وقدمت موشحاً لوقفة ... قلنا لهم ما نفعكم بالظلم ... فاستبشروا هذا حصاد الظلم ... فيها تقريع وتلويم لمن أمدّ صدّام بالمال ... وجعله قوياً مستأسداً عليهم ... ثمّ يتباكون مما جرّه عليهم ظلمهم لأنفسهم وللجمهورية الإسلامية ...


أحيينا على هذه الطريقة عِدّة مناسبات ... لا نأبه لما يدور في السماء من مُناوشات ... وإنها لإرادة قعساء في أصحاب المبادئ ... وقناعات لا تُذيبها البراكين ... و إن الجبل ليفلّ منه ولا يفلّ من المؤمن ...


العمر يمشي بنا ونمشي به ... سيرتنا في إحياء الذكريات لا تقف ... في نفس الذكرى ألقيت قصيدة داخل المأتم ... مطلع يُشبه ما نُردده في تشييع جنائزنا ... لا إله إلا الله ... بنفس اللحن المستخدم في حمل نعش الأموات لدينا ... ثمّ أعقبتها بكسرة ... شيعوا اجنازة وليكم ... يخلف الباري عليكم ... نص القصيدة يُحاكي ما نعيشه من شعور في دفن موتانا ...


النص محاولة لنقل المستمع لجوٍّ مقابري يبعث الرهبة في خفقات نفسه ... الموت ذلك الحاضر الغائب ... تخشاه النفوس وتخشى ما فيه من معميات ومجاهيل ... وأظنني بهذه الترديدة الجنائزية نقلت مستمعينا إلى جو مقبرتهم ... ومشهد دفن موتاهم ... وصورة الملا عيسى يُلقن الميت فوق شفير القبر ...


ملا عيسى رجل صالح ... تقي وقور ... شيبته قليل سوادها ... تيقظت عيناي في الدنيا ... ورأته يصعد المنبر لا يكل من منبره ... أذابَ نفسه في خدمة الحسين ... حتى في الأعياد ... يفتتحها بمجلس حسيني ... هذا الرجل في ذاك الزمان ... حين لا طلبة علم ولا معممين في القرية ... كان ينوء بحمل متطلباتها ... ينادي من مسجده المواجه لمنزله بالدعوة لصلاة الخسوف والكسوف والعيدين ... ويأم المصلين ... وما إن تسلم روح إلى بارئها إلا وتكون رجلاه أحطَّّتا في المقبرة ...


يخط بيده الهرمة فوق الكفن ... يذيب التربة الحسينية في الماء ... ويهيء له قلماًً من عصا جريد النخل ... وتعطر كفه صفحة الكفن بكتابة الآيات وأسماء أهل البيت الطيبين الطاهرين ... وآخر المهمات يختمها بتلقين المتوفي ... وينهض بقامته الفارعة ...


ويعود إلى منبره ... يهوى خطب علي ويحفظ منها الكثير ... لم تفتر طاقته عن أداء طموحاته ... أعاد بناء المسجد ... وشيد بجانبه حسينية برفقة أهل الخير من بني قومه ... بكل مايحمل من هذه العبقات تحضر صورته في القصيدة ...


كلما ترقى المتعامل مع اللحن في فنه أمسك بزمامه أكثر ... الوزن الواحد تستطيع تطويعه لأكثر من لحن ... بنفس الكلمات ألقيت هذه القصيدة ... حزنا على ساداتنا الطاهرين ... قطعت نصف الطريق بلحن تموج الأنفاس الحزينة في نواحيه ... وأعقبته في النصف الثاني بلحن صعدت من وتيرة الإيقاع وأصبح الحماس يهدر في ضرباته ... بنفس الكلمات ... تحولت كل الكلمات الرقيقة الشفافة السيالة بالعاطفة إلى حزن عارم يتشظى غضباً يكاد سعيره يطال مسببيه ...


وحينما تتوتر العلاقات ويظن الناس بنا شراً نلطف الأجواء بعمليات ثنائية ... قدمنا حسين سهوان وأنا ثنائياً لأول مرة في وفاة الإمام الصادق (ع) لعام 1411هـ بقصيدة ... من وصايا الإمام ... بتلك القصيدة أصبحت الإشاعات رجماً بالغيب ... نختلف في الرؤى ... ولاينبغي لهذا الموكب إلا أن يعلمنا أن نختلف ولا نتعادى ... وإلا لما كان الهدف المنشود من الموكب متحصلاً .


أستطيع من بعض الروايات استخلاص المعاني الجميلة لفكر أهل البيت ... استطاعوا حقاً تعليمنا فن الإختلاف ... فحوى الرواية يقول سُئل الإمام الحسن والإمام الحسين سؤالاً واحداً ... لكل منهما على حِدَة ... السؤال ... متى تحب أن يأتيك الموت؟ ... أثناء الصلاة أم بعد الإنفتال منها؟ ...


أحدهما أحب الموت أثناء الصلاة ليلقى الله مصلياً وأثناء تأدية الواجب ... الآخر أحب الموت بعد إتمام الصلاة ليقابل الكريم بنفس أتمت ماعليها من واجب ... هذا درس يعلمنا إياه أهل البيت ... في فن الرؤية ... رؤيتان مختلفتان لا تدعوان للتنافر ... فلكل رؤية ... وليس على الآخر منا رمي من يخالفه بصفات لا يرضاها لنفسه ... فلو وضع المتهم مكان من يتهم لعرف مقدار ما يتلقى الآخر ... سلام الله على فكر حاربه أعداؤه بالصد والنكران ... وتجاهله محبوه وأغراهم الشيطان....

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع