شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (35) - أحاديث يُرسلها اللحن

الصراع لا تخلو منه أرض ... الأنفاس في الحناجر تتصارع ... ولك أن تأخذ لنفسك من نفسك ... الخاملون لا ينتجون ... ويموتون قبل موتهم بسنوات ... تأخذ منهم الدنيا ... ولا يأخذون منها ... ككومة القش تأخذ منها الريح في كل هبة ما تُريد ... إلى أن تكون ختاماً إلى الإضمحلال ...


في عام 1411هـ بعد أن كانت الوقفات مفردة ... حاولت في جعل الوقفة تعتمد على شطرين أساسيين ... الشطر الأول مقدمة بإيقاع يتحمل نصف سرعة الوقفة الأساسية ... ثم تعقبه الوقفة المعتمدة بالإيقاع السريع ...


أقدم بالموشح الأول ... هذا شهيدٌ سمه الظلام ... ثم تتلوه الوقفة ... الإمام الشهيد نادى ... بهذا انتقلت الوقفات من طور الفردية إلى طور الموشح والوقفة ... ثم توالت الموشحات والوقفة لمدةٍ طويلة ... لا أقدم وقفة إلا بموشح يسبقها ... وأخذت الوقفات بهذا الأسلوب بعداً ناجحاً محبوباً ... بوجود النوعين تستطيع تطعيم الوقفة بأكثر من أسلوب ... أحداهما باللهجة الدارجة والثانية بالفصحى ...


زمنٌ جميل ما تقل تلك الفترة من ذكريات نقاشاتنا الجانبية ... عقب كل موكب أثناء تناول الوجبة التي تقدم ... من الحليب وشيء من (البخصم) أو السندويشات الجاهزة ... نتحاور مع الشيخ منصور حمادة حول الوقائع التاريخية ... ومواقع الكلمات من الإعراب ...


في ذكرى غريب خراسان الإمام الرضا 17 صفر 1411هـ ألقيت موشحاً قبل القصيدة ... من صغرنا كلنا وفي عهود الصبا ... نُقيم لطما على من مات مغتربا... نتجادل كثيراً في حقيقة حركة الإعراب التي يستحقها حرف اللام في كلمة (كلنا) ... بين من يعطفها على كلمة (صغرنا) ... وبين من يرفعها بالإبتداء ... وإنما جاءت متأخرة للصياغة ... والحقيقة أنَّ الكلمة تستحق الجر لكونها تلت معطوف .


ولا أخفي مستوراً حين أقول أن في المواكب نصوصاً تحتاج لمراجعة وإعادة صياغة ... منذ ونحن صغار وأبياتٌ مشهورة تُداعب آذاننا متعودين على حفظها وترديدها ... ملعون من صف الحطب ... على باب بيت النبي ... شطران من الشعر الفائض بالعاطفة المقهورة ...


الرادود يبدأ هواسته بالشطر الأول ... والجمهور يُجيبه بالشطر الثاني ... استوعبت الفكرة جيداً من هذين الشطرين ومن خلال توظيفنا للهواسة كموشح ... إذاً يمكننا توظيفها كوقفة ... نظّمت لحناً يتفق مع إيقاع الهوّاسة ... وألقيت الوقفة ... أبدأ بالشطر الأول فيجيب الجمهور بالشطر الثاني ... ثُم أضفت لها أكثر من شطر مثل ... طاغوت واقف بالغضب ... مرسول من أبي لهب ... ثم أنصرف للأبيات ... حتى أستنفذ الكفاية منها إلى القفل العائد إلى ما يُجيبني عليه الجمهور ...


هذه الوقفة وظفتها بعدة ألحان على مدى ثلاث أو أربع سنوات ... لكل سنة لحن وأسلوب مختلف ... بعد انقضاء ذكرى وفاة الرسول (ص) ... تبقى وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) المتبقية من الموسم ... الذكرى غالباً ما نستنهض فيها غائبنا للظهور... ونستعرض عليه مآسينا ومآسيه ... من ذكرى والده مروراً بأجداده الشهداء المظلومين ... وما نُلاقي من شظف عيشٍ وحرمان ... وكبتٍ ومطاردةٍ وقسوةِ حُكّام لا يعرفونَ للرأفةِ معنى ...


الإمام المنتظر الغائب ... لم يغب غيبته الكبرى حتى أنهى غيبته الصُغرى ... الغَيبة الصُغرى تمثلت بوجود أربعة سُفراء يلتقيهم الإمام ... من خلالهم يأخذ الشيعة أحكامهم وأوامرهم ... بموت السفير الرابع أنهى الإمام الغيبة الصُغرى ... وأمره بإخبارالشيعة بحصول الغيبة الكبرى ... إلى أن يتم الظهور النهائي حين قيامه بملأ الأرض قسطاً وعدلا بعد أن مُلأت ظلماً وجوراً...


بغياب الإمام تمت الغيبة الكُبرى ... وكثيراً ما ظهرت دعوات تدّعي اتصالها بالإمام ... وارتباطها به بطريقةٍ ما ... كل الدعوات كانت باطلة مُدلّسة ترمي إلى ابتزاز المشاعر والإستحواذ عليها ... وكهذه الدعوات جاءتنا دعوة السفارة في البحرين ... خُلاصة الدعوة أنَّ صاحبها يدّعي اتصاله بروح السفير الثالث الحسين بن روح ...


إدعاء كذبته الوقائع ... وما عليه شخصية القائم على المشروع ...ونحن في المواكب كحصنٍ واقٍ للمذهب علينا التصدي لمثل هذه الدعوات الكاذبة ... في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع) ... جئت بوقفة نددت فيها بالقائمين على دعوى السفارة ... انهض انهض يا غايب ... الحسن بالسم ذايب ...


اللهم كُن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه ... في هذه الساعة وفي كل ساعة ... ولياً وحافظاًوقائداً وناصرا ودليلاً وعينا ... حتى تسكنه أرضك طوعا... وتُمتعه فيها طويلا ... في نفس الذكرى وظفت اللحن لأسكب فيه هذه الكلمات النورانية ... لحّنت الدعاء كاملاً لأقدمه كمقدمةٍ للوقفة ... ثم تتلوه وقفة يا لواء النضال الآتي ...


وللمتفحص في تراثنا الموكبي أن يجد الكثير من الأدعية والأحاديث والكلمات النورانية في قوالب التلحين ... وهي ظاهرةٌ جديرةٌ بالعناية والدراسة ... والظاهرة عملية فنية معقدة ...تحتاج لمتمرس في إبراز اللحن ... ومتمكن من وضع اللحن في قالبه المناسب له ...


النص الموحي بالعاطفة يحتاج للحن تتدفق من نبراته لمسات الرقة ... أما النص التوجيهي كالأحاديث ذات المعاني الوعظية فيحتاج لألحان فيها طابع الجدية والإستقامة دون الإستعانة بالألحان المائلة إلى العاطفة ... كذلك النصوص الولائية يمكننا إنزالها في قالب الألحان الوسطية ... وشيء من العاطفة وشيء من الإستقامة ...


أما بالنسبة لي فقد أجريت النصوص المقدسة في ألحان متنوعة وبطرقٍ شتى ... مثل فاطمةٌ بضعةٌ مني ... حسينٌ مني وأنا من حسين ... أحب الله من أحب فاطمة ... شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا ...يبقى على ملحن النص أن يجد الإحساس في النص لينتقل من الإحساس إلى عملية تفعيله في الإيقاع ...وتحويله إلى مموسق يجري مع اللطم ويعبرالأسماع ... فيؤدي دوراً لا تستطيع الكلمة المنثورة تأديته إلا بعناء ... بهذا يستطيع اللحن ذو الإيقاع المنتظم أن يقتحم النفوس ...


وكم من طفل أصبح يردد أحاديثاً انطبعت في حافظته من خلال متابعته للموكب ... وبقليل من التوجيه نستطيع تقديم النص بمعية تفصيل وافٍ لما يرمي له ولما فيه من أبعاد ....

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع