شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (34) - رجل المواقف

تكافئنا التجارب بصقل عقولنا ... تصب فيها إكسير النباهة ... وتبعدنا عن مزالق الأخطار ... وبقدر ما تكون مجرباً تكون ناضجاً ... بكثرة الكتابة يتعلم صاحب القلم أين سقطات القلم تكون ... وبحجم المحنة تأخذمهارة ... كالنار كلما نفخت فيها حصلت على ضياءٍ أوسع ...


ونصل بعام 1410هـ بقرب نهايته ... ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (ع) ... أدرجنا الرادود رياض يوسف للمشاركة ليلا في موكب المسير ...لا زلنا مصنفين ... هذا رادود في مأتم بن خميس ... وذاك رادود في مأتم السنابس ... نحاول كسر العزلة ... وخرق الحصار المفروض بتلقاء ذهنياتنا بمشاركة كل منا في المأتمين ... المأتمان في ظاهر خطواتهما يتقاربان ... كخطوات تفعيلية إدارية ... نحن كذلك كرواديد لا نقل مكانة عن الآخرين ...


كتب القصيدة الشيخ عبدالهادي المخوضر لرياض ... كمنظمين نحن قرأنا القصيدة ... وجدنا فيها طرحا يخشى على الموكب والرادود من عرضه ... اقترحنا تغيير أو شطب بعض الكلمات ... لم يستجب الشاعر للطلب ... أعطانا خيارين أحلاهما مر ... إما أن تلقى القصيدة كاملة بلا تغيير ... وإما أن تُلغى كاملة ... هذا ونحن في اليوم الذي يسبق الذكرى ... الوقت لا يسعفنا ... والقرار يضطرنا لأحد الأمرين ...


بحسبة ما قررنا إلغاء القصيدة حين اعتذر الرادود رياض أيضاً ... وبات الآن علينا إيجاد البديل ... كنت أنا البديل ... من العصر إلى الليل وقت الموكب أعددت القصيدة ... يا عظيماً سار معلناً الله أكبر ... نص شعري يقدم رؤية واضحة للمعاني السامية في تكبيرة الإحرام خاصة ... وفي التكبير بصورة عامة ...


سنوات مرت والموكب يتنامى حضوره ... والجهود متكاتفة لرفعة الموكب ... كانت الإدارة في ما فات من زمن مؤلفة من مجموعة من كبارالسن ... أما في هذه السنوات فباتت الحاجة مؤكدة إلى الدماء الشابة ...


دعينا للدخول في الإدارة ... لم يكن النظام انتخابياً ... وإنما بالتعيين ... أغلب الوجوه التي اختيرت من الرواديد ... وكأنها إدارة رواديد ... وليست إدارة مأتم بكامل مرافقه ... بالطبع فالوجه البارز في المأتم آنذاك هو الموكب ... ما يقرب من نصف الإدارة من الرواديد ... خبرتنا في الإدارة قليلة جداً ... ولما نزل بعودغض طري لم تعركه الحوادث ... تلك الإدارة مكونة منا وثلة من الآباء المتمرسين في إدارة أمورالحسينية .


الإدارة برئاسة الحاج محمد علي مرهون رحمه الله ... الرجل القادر على ضم كل التوجهات تحت جناحه ... الرجل الذي تولى إدارة المأتم بعد وفاة الحاج حسين بن خميس ... الوصية التي تركها مؤسس الحسينية الحاج أحمد بن خميس تُشير إلى تولي الصالح من الذرية الولاية على المأتم ... بعد وفاة (أبو علي) حسين بن خميس رحمه الله لم يكن هناك من المؤهلين لهذا المركز إلا الحاج محمّد علي على ما يبدو ...


المواقف وحدها تستطيع رسم صور للرجال ... استطاع بتفرد اثبات مؤهليته لهذه المهمة ... سخاء كفه وبساطة معشره كافيان لذلك ... تولى مسؤليته على أتم وجه ... لا يلم بالمأتم خطب إلا ويبادر إلى إيجاد حل له ... إن أصاب أو أخطأ ... لا يصم أذنيه عن ضجيج ... وهب ذاته لخدمة الحسين ... جبلٌ شامخٌ في مواجهة الملمات ... يستدعيه المركز لمرات ... ولا ينالون منه ما يُشكل ضرراً على الشعائر ... نفسه متسامحة ...


وروحه تحلق على الجميع روح أب ... لي معه ذكريات طريفة ... عند اشتداد الجدل الإداري داخل أروقة الإدارة ... وحين أواجه مشروعاً لا أعتقد بصلاحيته ... يتوجه لي الحاج محمّد علي قائلاً ... لا زلت أتذكر قصيدتك التي تهاجم فيها الإدارات ... ويعني .. أني كنت أقصدهم وقتذاك ... كثيراً ما سمعته يقول ... لا تلغوا شيئاً من شعائرنا ... وأيام إحيائها ... إذا استطعتم الإضافة عليها فافعلوا ...


لا أجدني أميل لهذا الرأي ... هذا التوجه الذي يبحث عن الكم ... ولا يعتني بالكيف ... أجدني أقول قليلٌ يدوم خيرٌ من كثير زائل ... قليلٌ نُحافظ عليه ونتقنه... خيرٌ من كثيرٍ متخم بالسلبيات ... إنما كان هذا الرجل يُفكر بمستواه وبزمانه وما يُعانيه ... من محاولات السلطة للحد من مد المآتم وأنشطتها ...


أسلم هذا الرجل أنفاسه الأخيرة في يوم العاشر من المحرم لعام 1428هـ ...وكأن أنفاسه تأبى إلا مواساة الحسين في يومه الخالد ... عرجت روحه إلى عالم الملكوت محلقة في صحبة الحسين ... بعد عقودٍ من البذل والعمل الدؤب والتفاني في رحاب أبيِّ الضيم ...


جميلٌ منا حين نعود لماضينا ونرى خللاً أن نعترف به ... حين نرى كل أفعالنا جميلة ماضيها وحاضرها ... هذه حالة ترسخ الخطأ ... ولا تفتح باباً لمراجعة الذات ... يسود قصائدنا القديمة سيلٌ من المفاهيم ... مفاهيم تحتاج لمراجعة ... كتبت قصيدت تحكي لسان حال رملة تخاطب ولدها ... ضاع ارباك والسهر ضاع ارباك ...


بالإستفاقة من غيبوبة القلم نجد المعنى غير مقبول ... الأمهات في كربلاء يتمنين بذل أفلاذ أكبادهن فداءً لأبي عبدالله ... بينما أحداهن بل من أقربهن للبيت العلوي تصف تقديم ابنها مُحارباً في سبيل قضيته ... تصف هذا بضياع تعبها ...


العاطفة الشعبية استولت على زمام النص ... وحرفته عن وجهته الحقيقية ... والتي تدفع ابنها ليذب عن عمه بإرادته لا تجد فقده خُسرانا ... هكذا أقول عن مثل هذه النصوص أنها زلة قلم غير مقصودة ... وبالبحث في قصائدنا التراثية سنلاحظ كثيراً من مثل هذه الزلات ... ولا ضير علينا حين نُمحص نصوصنا ... ونتراجع عن ما هو غير دقيق ... ونتبرأ مما هو غير صحيح ... وهي مسئولية جسيمة ... تقع على عاتق المهتمين بتنقية النصوص من الأخطاء الفكرية ...


وفي ليلة العاشر أيضاً حينما ألقيت قصيدة ... لا توصوني ... في نهاية المستهل ... من بعدكم يهلي واضيعتي وذلي ... تسلل أحد المعزين لداخل الحلقة ... أشكل على عبارة (واضيعتي وذلي) يبدو أنه كان محقاً شيئاًما ... نحن لا ينبغي علينا تصوير أهل البيت في موقف الخنوع ... وإن كان النص لا ينتهي لهذه الوجهة ... إنما الحالة هي توصيف ... وليست حال بالرضا ...


هذه القصيدة قدمتها ثُنائية مع مكي جاسم ... لنصف الطريق ... والنصف الآخر قدمنا قصيدة أخرى ثُنائية أيضاً ... اصبري يا بضعة الزهرا ... الأولى تتناول الجانب العاطفي ... والثانية لها إيضاح البُعد التوضيحي لدور السيدة زينب (ع)... وهكذا قسمنا ليلة عاشوراء إلى القسمين الضروريين فيها ...


قسمٌ للقلب وآخر للعقل ... بهذا تُعْرِب النصوص الحسينية عن نفسها ... وتستأثر بالمشاعر الجياشة ... وتصبح قصائدها أنفاساً تتهادى فوق شطآن القلوب ... وتربو في أحضان الذاكرة إلى ما لا أمدَ له في الزمان ... 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع