شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (30) - كعبة الدم حرروها

الرحى بين حجريها تطحن حباً فتحيله طحينا ... تطوعه وتأهله ليكون رغيفاً ... يتقوت به الجائعون ... الإنسان كالحب بين أحجار الأزمات ... تصنع منه شخصية ممزوجة بالخبرات ... مليئة بالنضج ... إن استوعب الخبرة ... ووظفها لصالح ما يستقبل من عمر.


في كل الفترات السابقة اعتمدت على ريع قلمي في قصائد الموكب ... تعاونت مع الشاعر سيد عيسى شرف وأخذت منه موشحا مطلعه ... يا امامي المنتظر يا لثارات الحسين ... إن تنوع نصوصك فيه عطاء مختلف ... ونفس آخر غير ما اعتاد عليه السامعون ...


ولم تزل قصائدنا مشبعة بالحس الولائي ... الطرح الولائي يلقى تفاعلاً منقطع النظير ... من كل الفئات ... فقلوبهم مربوطة بهذا الرباط ... على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم ... رابطة الحب لأهل البيت متعمقة في شرايين أحاسيسهم ... مع مزج الكلمة الولائية في قالب الوقفة يكون الوجدان ملتهبا بالتوقد العاطفي ... طرحت وقفة .. ناصرينك ناصرينك ... شيعتك وموالينك ... فتلقاها الجمهور بتقبل جميل ... كان لها أثر في تكرار الطرح الولائي وبصور شتى متنوعة ...


في هذا العام (1408هـ) أصبحت المنطقة على موعد مع تجاذبات وآراء مختلفة بشأن الوفيات .. وأساليب العزاء ... موجة من الحماس اجتاحت السنابس ... بدأنا بإحياء وفاة السيدة زينب ليلاً ... داخل المأتم ... وألقيت قصيدة ... يا دهر وشذنب زينب حتى تبليها ابيسر ... وكانت بادرة استلم منها الشباب زمام الطلب بإحياء جميع الوفيات ... الأمر كان صعباً على الإدارة حينها.


وتقبل وفاة الإمام الهادي (ع) ... أحييناها خارج المأتم ... انطلق الموكب من مسجد السيف بجهد شبابي فقط ... ووسعت طريق الموكب بالطريق الطويلة ... شاركت في الموكب ... وشارك حسين سهوان وحسن المعلمة ... دولة الدين منصوره ودولة الآل ... تلك كانت قصيدتي في ذلك الموكب الشبابي المتمرد ... ذلك التمرد ضغط على الإدارة في مأتم بن خميس للخروج في الوفيات ...


سادت المنطقة تجاذبات هرج ومرج ... بين مؤيد ومعارض ... تراجع البعض عن المشاركة في هذا الموكب لكثرة ما حدثت من خلافات في التوجهات ... ولم أشارك فيه مرة أخرى ... ربما لكوني كنت محسوباً على الموالاة مع الإدارة حينئذ ... وإن كنت لا أهضم الموالاة التامة لبشر لا ترافقه العصمة ...


استمر الموكب يخرج من موقعه لأكثر من مرة ... ألقى فيه حسين سهوان قصائد مكشوفة النصوص بطرحها مثل ... كعبة الدم حرروها ... وكتبت لحسن المعلمة قصيدة تعرضت لإسرائيل وتعديها على الأمة الإسلامية ... تقطع هذا التشنج وفاة الإمام الكاظم ... تحيا هذه الذكرى في المأتم... قدمت فيها وقفة .. بويه بويه وداعة الله يتمونا ... فارقتنا وانت مسجون ... بني هاشم خلهم ايجون ...


مقام النهاوند المميز يبدو ظاهراً على مطلعها ... والجناس غير التام واضح في مكاسر المستهل ... كلمتا (مسجون) و(ايجون) تنتهيان بكلمة (جون) لي ولعٌ بهذا الفن من الجناس ... استخدمت أنواعاً مختلفة منه في قصائد أخرى ... مثل ... كون السر في هالكون ... ولون وبك يجملون ... جمالية الترتيب في النص فن مهم ومطلوب في النص الرثائي ... وليس علينا بالاكتفاء بالمعنى دون المبنى.


وتجد أيضاً في القصائد المسموعة في أرشيفنا كقصيدة ... الليله العقيلة تفقد أبوها ... مع بُعد لحن الفقرات عن لحن القفل العائد للمستهل إلا أن الرابط بينهما منسجم للإثنين ... تجد هبوطاً متدرجاً بالصوت إلى أن يصل إلى درجة لحن المستهل ... ويساوي بينه وبين مقام لحن المستهل بنغمة قريبة ... هذه الإجادة مهمة الوجود للمحافظة على الإنسجام لدى الآذان ... وكي لا نجلب النشاز في الأداء ..


كما للتحكم في الصوت أولوية عند المستمع ... فعلى الرادود المحافظة على انسيابية المفردات صادحة من حنجرته ... لا يعتريها تلكؤ ولا اهتزاز نغم شاذ ... ولا تشنج يحدث تضايقاً ونفوراً عند الجمهور ... وهذه عملية من عمليات المظاهر الجميلة والتي ينبغي المحافظة عليها..


وتخف حدة الضغوط على الإدارة عندما تتبنى خروج الموكب في ذكرى وفاة الإمام الصادق في يوم 25 شوال لعام 1408هـ ... جئت للموكب بوقفة ... يالذي بالنجف قوم الليله ... امتلأ الموكب بالأعلام السوداء ... على خلفية ما جرى في موكب مسجد السيف ...


بدأت التكبيرات تظهر في الموكب ... وبدأ الخلاف على كونها صالحة للموكب أم غير صالحة ... من جانبي ومن يرون رأيي كنا نخشى تطورها وفلتانها عن التحكم ... ولا نعود نجيد إدارتها ...


مع كوني كنت معارضاً لها لهذه الأسباب ... إلا أني ألقيت بالكرة في ملعب الإدارة ... قلت للمتحمسين للفكرة إذهبوا للحاج محمد علي مرهون ... خذوا موافقته ... ويكون الأمر نافذا لكونه صاحب القرار الأول والأخير حينها ...


تتلو وفاة الصادق وفاتان لإمامين لم نتعود على إحياء ذكراهما ... الإمام الجواد والباقر ... أحياهما الشباب من المسجد ... كاستمرار للضغط على الإدارة ... ويبدو أن الضغط كان ناجحاً مفيداً...


ويقبل العام التالي (1409هـ) ... فيه أقمنا العزاء في الليالي الست الأولى داخل حسينية بن خميس ... يتواجد الشباب للطم ... دون نزع ملابسهم ... وكان الحضور قوياً ذا فاعليه ... سابقاً لا تحيى هذه الليالي بعد الخطيب ... وكنا نجلس جلسة حوار بين الجمهور والرواديد في جلسة خاصة ... يبوح فيها كل طرف بما في حوصلته على الآخر من نقد ...


ينتقدون ألحاننا وأداءنا ... وننتقد عدم تشجيعهم لما نقدم لهم من ناشئة ... في هذا العام أيضا توطدت العلاقات وترطبت بين المأتمين ... تم الإتفاق على دخول موكب بن خميس لفناء مأتم السنابس ...داخلاً من الباب الجنوبي خارجاً من الشمالي ... كذلك مأتم السنابس يدخل من باب حسينية بن خميس الشمالي ويخرج من الجنوبي ...


بالنسبة لموكب بن خميس العملية تحتاج لإنعطاف للدخول لمأتم السنابس ... العمليتان بمثابة صلح ونسيان للماضي المر بينهما ... لسان حال العملية يقول ... أني أقبلك وأقبل عليك وأنت تقبلني وتقبل علي ... وللأمانة التاريخية أقول... يبقى أفراد متحفظون ... لا يستسيغون التقارب بين المأتمين ... وتبقى أرجلهم مبرأة من الدخول في المأتم الآخر ...


ولا تستطيع أن تقول إلا أن من لا يعرف الحسين بحقيقته ... يضل في الطرقات وتشتبه عليه السبل ... فليس الحسين من يشق البيت إلى طرفين ... وليست عاشوراء التي تجعل العصبية العمياء حاكمة في مصائر الأمة ...

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع