شارك هذا الموضوع

وصايا المقدس البهاري الهمداني في موسم الحج

وصايا المقدس البهاري الهمداني في موسم الحج
 


إعلم أيها الطالب للوصول إلى بيت الله الحرام، أن لله جل شأنه العظيم بيوتاً مختلفة أحدها يسمى الكعبة الظاهرية، التي أنت قاصدها، وبيت المقدس، والبيت المعمور، والعرش، وهكذا إلى أن نصل إلى حيث البيت الحقيقي الأصلي الذي يسمى القلب، الذي هو أعظم من كل هذه البيوت . والهدف من هذه الرسالة منحصر بآداب الكعبة الظاهرية، غير تلك الآداب التي تذكر في المناسك، وقد تذكر ضمناً إشارات إلى آداب الكعبة الحقيقية على سبيل الإجمال .


أولاً: إعلم أن الهدف من تشريع هذا العمل الشريف الحج قد يكون أن الهدف المقصود الأصلي من خلق الإنسان هومعرفة الله والوصول إلى درجة حبه والأنس به، ولا يمكن حصول هذين الأمرين إلا بتصفية القلب، وذلك لا يمكن حصوله أيضاً إلابكف النفس عن الشهوات والإنقطاع من الدنيا الدنية و{حملها} على المشاق من العبادات ظاهرية وباطنية . ومن هنا لم يجعل الشارع المقدس العبادات نسقاً واحداً، بل جعلها متنوعة، حيث تتكفل كل منها بإزالة رذيلة من الرذائل لتتم تصفية النفس تماماً، بالإشتغال بتلك العبادة . فالصدقات والحقوق المالية، يقطع أداؤها الميل إلى حطام الدنيا . والصوم يقطع الإنسان عن المشتهيات النفسانية . والصلاة تنهى عن كل فحشاء ومنكر . وهكذا سائر العبادات، ولأن الحج مجمع العناوين، وزيادة، لأنه يشتمل على جملة من مشاق الأعمال التي تتوفر في كل منها صلاحية تصفية النفس، مثل: إنفاق المال الكثير والقطع عن الأهل والأولاد والوطن، والحشر مع النفوس الشريرة، وطي المنازل البعيدة، مع الإبتلاء بالعطش في الحر الشديد في بعض الأوقات، والقيام بأعمال غير مأنوسة، لا تقبلها الطباع، من الرمي والطواف والسعي والإحرم وغير ذلكمن الفضائل الكثيرة من قبيل : التذكير بأحوال الآخرة، من خلال رؤية أصناف الخلق والإجتماع الحاشدفي صُقع واحد{وبقعة واحدة} على نهج واحد، لا سيما في الإحرام والوقوفين . والوصول إلى محل الوحي ونزولِ الملائكة على الأنبياء من آدم إلى الخاتمصلوات الله عليهم أجمعين، والتشرف بمحل أقدامأولئك العظماء، مضافاً إلى التشرف بحرم الله وبيته، مع الحصول على الرقة التي تورث صفاء القلب برؤية هذه الأمكنة الشريفة، مع الأمكنة الشريفة الأخرى التي لا تتسع الرسالة لتفصيلها . ولا يصل الإنسان إلى هذه الكرامة العظمى إلا بملاحظة الآداب والرسوم الحقيقيةوهي أمور:


* الأول:أن كل عبادة من العبادات، يجب أن تكون بنية صادقة، وتؤدى بقصد إمتثال أمر الشارع، لتصبح عبادة، فمن أراد الحج يجب أولاً أن يتأمل بعض الشيء في نيته، فيضع هوى النفس جانباً، ويرى هل أن هدفه من هذا السفر هو امتثال الأمر الإلهي، والحصول على ثوابه تعالى، والفرار من عقابه، أم أن هدفه - نستجير بالله- تحصيل الإعتبار، أو خوف ذم الناس، أو تفسيقهم له، أو الخوف من الفقر، بناءً على أن كل من ترك الحج ابتلي بالفقر، أو أمور أخرى من قبيل التجارة، والنزهة والسياحة في البلاد وغير ذلك.


الثاني:أن يهيء نفسه لحضور مجلس الروحانيين بتوبة صادقة، بجميع مقدماتها[2] التي من جملتها رد الحقوق سواءً المالية مثل الغيبة، وأذية هتك الغير وجرح كرامته، وسائر الجنايات على الآخرين مما يجب الاستحلال من أصحابها، بالتفاصيل المذكورة في محلها. ويحسن إيقاع التوبة بعد هذه المقدمات في يوم الأحد كما هو مذكور في "منهاج العارفين"[3] وإذا كان أحد والديه على قيد الحياة، فليرضه عنه مهما أمكن، ليخرج من منزله طاهراً نقياً، بل يزيل تمام تعلقاته، ويقطع رأس انشغال قلبه وعدم حضوره، ليتوجه بتمام قلبه إلى الله وليتصرف على أساس أنه لن يرجع أبداً . وبناءً على هذا، يجب أن يوصي وصية تامة كاملة، بمعرفة أشخاص خيّرين، عارفين، ليوضحوا له كيفية الوصية، فلا يضيق الأمر على الوصي، بل يجعله وصيَّه في الثلث ويترك له حرية الحركة، حتى لا يقع مسلم بسببه بعد موته في الحرج . ومع ذلك يترك أهله وعياله في كفالة الكفيل الحقيقي، فإنه خير معين ونعم الوكيل . وباختصار، إن عليه أن يتصرف بحيث إنه إذا لم يرجع فلا يكون قد بقي أي جزئي من جزئيات أموره معلقاً، بل كذلك يجب أن يكون من لا يعرف تماماً متى يموت.


الثالث: أن لا يهيء لنفسه في سفره أسباب انشغال القلب[4]، فيمنعه ذلك عن أن يكون في حركاته وسكناته في ذكر المحبوب"سبحانه" سواءً كانت أسباب الإنشغال هذه من قبيل العيال والأولاد أو الرفيق غير الملائم للطبع، أو بضاعة للتجارة أو غير ذلك، المهم أن لا يهيء هو بيده ما يضطره إلى صرف اهتمامه فيه،بل إذا استطاع فليسافر مع أشخاص يغلب عليهم تذكيره، أو يذكرونه دائماً كلما غفل.


*الرابع: أن يبذل الجهد مهما أمكنه، لإحراز حليّة مصرفه[5]، ويأخذ منه ما يزيد على حاجته، وأن لا يضيق ذرعاً في الإنفاق[6]،لأن الإنفاق في الحج إنفاق في سبيل الله، فلماذا ينقبض قلب الإنسان من الزيادة في المصرف، فليحمل أحسن الزاد، وليكثر الإنفاق فإن درهماً منه في أحاديث أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين بسبعين درهماً.


أزهد الزهاد أعني الإمام السجاد سلام الله عليه كان عندما يريد الحج يحمل معه مثل اللوز والسكر والحلويات والسويق . بل من جملة أسباب سعادة الإنسان، إذا تلف له شيء في هذا السفر أو سرق منه، أو زادت مصاريفه، فليشعر بكمال الإمتنان، بل ينبغي أن تغمره الفرحة لأن جميع ذلك يتم ثبته وتسجيله على المضيف في الديوان الأعلى وسيعوضه عليه بأضعاف مضاعفة . ألا ترى أنك إذا دعاك شخص إلى ضيافته في بيته، وواجهت في أثناء الطريق ضرراً ما، فإن صاحب البيت إذا استطاع، يعوض ذلك عليك بقدر ما يمكنه، لأنه هو الذي طلبك. يفعل ذلك، مع أنه"بالنسبة إلى الله تعالى" لئيم وعاجز،فكيف ظنك بأقدر القادرين وأكرم الأكرمين حاشا وكلا أن يكون كرمه أقل من عربي يسكن البادية. نعوذ بالله من سوء الظن بالخالق . وصدق هذا القول واضح لمن تنقل بين أعراب البادية، واطلع على أحوالهم.


الخامس:أن يكون حسن الخُلق[7]، ويتواضع للرفيق من السائق وغيره، ويحذر اللغو والفحش والحدة، والكلام غير المناسب، وليس حسن الخلق أن لا يؤذي أحداً فقط، بل من جملة الأخلاق الحسنة أن يتحمل أذى الآخرين، بل بالإضافة إلى تحمل الأذى، يخفض جناحه، وإلى ذلك يشيرقوله في الحديث القدسي{وحاصله: }


 "أخفيت رضاي في جفاء المخلوق، فمن كان يريد رضاي فليتحمل من الآخرين جفاءهم".[8]


* السادس: أن يقصد الحج، فقط دون غيره، بل يجب أن يقصد ضمن ذلك عدة عبادات - إحداها الحج - من قبيل: زيارة القبور المطهرة للشهداء والأولياء، والسعي في حوائج المؤمنين، وتعليم الأحكام الدينية وتعلمها، ترويج المذهب الحق، وتعظيم شعائر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.


*السابع: أن لا يهيء لنفسه أسباب التكبر، بل ينبغي أن يذهب إلى الحرم الإلهي منكسر القلب مغبراً كما أشير إلى ذلك في المناسك في باب الإحرام.


*الثامن: أن لا يخرج من بيته إلا بعد أن يودع[9]نفسه وكل ما معه من رفقائه، وما حمله، وأهل بيته، وكل ما له تعلق به، أمانة عند خالقه جل ثناؤه، ويخرج عند ذلك من بيته، بكمال الاطمئنان، فإنه جلت عظمته نعم الحفيظ ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.


وهناك آداب أخرى ذكرت في المناسك، بلى، يهتم اهتماماً تاماً بالصدقة، بمعنى أن يشتري صحته سلامته من خالقه بهذه الصدقة.


* التاسع: أن لا يكون اعتماده على محفظة نقوده وقوته وشبابه[10]، بل يكون اعتماده في كل حال، بالنسبة إلى كل شيئ على صاحب البيت.


والمقدمات أكثر من ذلك، إلا أن الإطالة في الرسالة ليست الهدف.


"إذا كان في البيت أحد، فحرف واحد يكفي."[11]
يجب التأمل والتنبه إلى أن هذا السفر سفر جسماني إلى الله، وأنه سيسافر سفراً روحانياً إلى الله "بالموت".


إنه لم يأت إلى الدنيا من أجل الطعام والشراب[2] بل خلق للمعرفة، وتكميل النفس.


* في ذلك السفر "الجسماني" يحتاج الى الزاد والراحلة، والرفيق وأمير الحاج، والدليل والخدم، وغير ذلك. وعدم توفر أي من ذلك يحدث خللاً في سفره، وقد لا يصل إلى المقصد، بل قد يقع في التهلكة.


* وفي هذا السفر "الروحاني" يحتاج إلى ذلك بعينه، وإلا فإنه لن يستطيع أن يخطو خطوة واحدة، وإذا توهم أنه يمكنه السفر بدون هذه المقدمات، فإنه  قد ضل الطريققطعاًوليس متوجهاً إلى الكعبة الحقيقية.


* أما الراحلة في هذا السفر "الروحاني" إلى الله تعالى، فهي البدن، فيجب أن لا يقصر في خدمته بنحو الاعتدال، فلا يشبعه إلى حيث يتمرد ويطغى ولا يمكنه ترويضه، ولا يجوِّعه بحيث يستولي عليه الضعف، فيقصر في العبادة، خير الأمور أوسطها، والإفراط والتفريط مذمومان.


* وأما زاده فهوأعماله الخارجية، التي يعبر عنها بالتقوى، من فعل الواجبات وترك المحرمات والمكروهات والإتيان بالمستحبات.[3] وأصل معنى التقوى "الحمية" وأدنى درجاتها الحمية عن المحرمات، وآخرها الحمية عما سوى الله جل جلاله، وبينهما متوسطات.


* فحاصل الكلام أن كلاً من ترك المحرمات والإتيان بالواجبات بمنزلة الزاد الذي يحتاج كل شخص إلى قسم منه في منزل من المنازل الأخروية بدرجات الحاجة المتفاوتة، واذا لم تكن قد حملته معك ابتليت، نستجير بالله من هذه البلوى العظيمة.


* وأما الرفقاء في هذا السفر "الروحاني" فهم المؤمنون الذين يستطيع الشخص بهمَّة كل منهم واتحاد قلوبهم أن يقطع هذه المنازل "مراحل الطريق" بالطيران[4] وإليه يشير قوله عز من قائل: وتعاونوا على البر والتقوى.


ولعل هذا السفر لايتيسر بدون الجماعة، وربما كان هذا هو السبب في منع الرهبانية في هذه الأمة.


 كان أستاذنا[5] عليه الرحمة يقول:


"اتحاد القلوب يمكّن من كثير فعل لا سبيل إليه مع تفرق القلوب".


وكان يهتم اهتماماً تاماً بهذا الأمر، وهو كذلك.


كل المفاسد تنشأ من اختلاف القلوب، وشرح ذلك يطول، لعلّي أوفق للإشارة الى ما يجب ان يكون عليه الرفيق، إن في الحضر، أو السفر، وكيف يجب أن يكون سلوكك معه.


* وأما أميرالحاج في هذا السفرإلى الآخرة فهم الأئمة الطاهرون سلام الله عليهم أجمعين[6] الذين يجب أن تكون ظلالهم فوق رأسك، وتتمسك بحبل ولايتهم المتين، ملتجئاً كل الالتجاء إليهم باعتبارهم آل العصمة والطهارة، لتستطيع أن تخطو بعض الخطوات، وإلا اختطفك شياطين الجن والإنس في القدم الأول، كما هو الأمر في السلب الذي يقوم به العرب البدو، وغاراتهم على الحجاج الذين يسيرون بدون أمير كما هو واضح خصوصاً كلما اقترب الحجاج من الحرم.


نعم إذا أوصل الشخص نفسه{دون توسل} إلى الحرم فإنه بمأمن من كل خوف : "ومن دخله كان آمنا ً".


ولكن هيهات أن يستطيع الوصول، إن ذلك لن يكون، والله العالم.


* وأما دليل هذا الطريق الى الآخرة، فرغم أن الأئمة الطاهرين سلام الله عليه أدلاء على الله تعالى، إلا أننا نحن نتيجة سوء التربية وانحطاط المرتبة لا نستطيع تلقّي الفيوضات من أولئك العظماء بلا واسطة، لذا فنحن محتاجون في الدلالات الجزئية والتفصيلية إلى العلماء بالآخرة وأهل التقوى لنتمكن بيُمن هدايتهم وتعليمهم أن ندرك الفيوضات التي لا سبيل إليها بدون وساطتهم إلا بمنتهى العسرة والتعذر، إننا محتاجون الى العلماء ولا يمكننا أن نحصل على شيء بدونهم.[7]


* نعم، وعندما يصل الحاج إلى الميقات، ينزع ثيابه في الظاهر ويلبس ثوبي الإحرام، وأما في الباطن فينبغي أن يكون قصده أنه خلع عن نفسه ثياب المعصية والكفر والرياء والنفاق، ولبس ثوب الطاعة والعبودية، ويتنبه كذلك إلى أنه كما يلاقي ربه في الدنيا "في حال الإحرام" بغير زيه وعادته، مغبراً، حاسر الرأس، حافي القدمين، فكذلك سيلاقي ملائكة ربه بعد الموت، فينبغي أن يكون عند ارتداء ثوبي الإحرام، بمنتهى الذل والانكسار، وقبل ارتداء ثوبي الإحرام، أثناء التنظيف، وهو عارٍ يجب أن يكون قصده تنظيف الروح من درن المعاصي، ويعقد ثوبي الإحرام بقصد التوبة الصحيحة، أي أن يحَرِّم على نفسه بعزم وإرادة صادقة، كل الأمور التي حرمها رب العالمين، بحيث يقرر أنه من الآن فصاعداً، وبعد رجوعه من مكة المعظمة لن يطوف حول المعاصي.


*وعندما يقول لبيك، ينبغي أن يتنبه إلى أن قوله هذا، إجابة للنداء الذي وُجه إليه، فينوي أولاً: قبلت كل طاعة لله تعالى. وثانياً: يعيش التردد بين قبول هذا العمل منه وعدم قبوله "فيكون بين الخوف والرجاء".


ليستحضرْ هنا قضية سيد الساجدين سلام الله عليه، حيث لم يتمكن في الإحرام أن يقول: لبيك، وأغمي عليه،وعندما سئل عن ذلك قال: أخاف أن يقول ربي: لا لبيك،[8]


وليستحضر بذلك يوم المحشر، حيث يخرج جميع الناس على هذا الشكل من قبورهم، شعث الشعور غبر الوجوه، حفاة، في زحام لا نظير له، بعضهم في زمرة المقبولين، والبعض الآخر في زمرة المردودين، بعضٌ منعّم، وبعضٌ معذب، وبعض متحير في الأمر، بعد أن كانوا جميعاً في الورطة الأولى في شك من أمرهم وترديد.


* وعندما يدخل الحرم يجب أن يكون حاله حال الرجاء والأمن من السخط والغضب الإلهيين، كحال المذنب الذي وصل الى حصن حصين، والتجأ الى ملجأ أمين، بمفاد الآية الشريفة: "من دخله كان آمناً" فإن مكان زيادة الرجاء والأمل هو هذا المكان.


ذلك لأن شرف البيت العظيم، وصاحبه يقتضيان توسعة الرحمة على الراجي الكريم.


فأنت هناك ضيف خاص لأكرم الأكرمين، كان يبحث عن مبرر ليدعوك ولو مرة واحدة في العمر الى بيته، رغم أنك كنت ضيفه دائماً، والآن تيسر ذلك، حاشا كرمه وكلا أن يتبرم بطلبك مهما طلبت منه، حيث إنه يستطيع التكرم به،


ما هكذا الظن به جلت عظمته.


مثل هذا الظن ينبغي أن لا يظن ببعض أسخياء العرب، فضلاً عن الجواد المطلق.


* أما اذا كنت أنت لا تستطيع الحصول على ما تريد، أو تحصل عليه ولا تستطيع المحافظة عليه، أو أنك من الأصل لا تعرف ماذا يجب أن تطلب، أو تفعل شيئاً بحيث تكون أنت السبب في عدم وجود المقتضي لعطائك، فليس الذنب في ذلك ذنب أحد "غيرك".


* الإستجداء لا ينسجم مع الكسل وموت الهمة بلى، إن الخلل هنا.


 أكثر الناس الذين يتشرفون بمكة، أعظم همهم أن يؤدوا ظاهر هذه الأعمال، ويلقوها عن ظهورهم على سبيل الإستعجال وعند ذلك ينصرفون براحة بال إلى المشتريات، ولا يبذلون جهداً ليتركز الإنتباه على التفكير بمقدار ذرة على معنى هذه الأعمال، مع أن كل حواس الضيف يجب أن تكون متوجهة الى المضيف، حتى أن الصوم المستحب مذموم بدون إذن المضيف "من الناس" لأنك عندما تكون ضيف شخص وتصوم في بيته دون إذنه فقد تجرأت عليه في بيته.


والتجرؤ على كرامة سلطان السلاطين، هو الإشتغال بما نهى عنه.


أي حاج من الحجاج الاعتياديين، دخل الى الحرم الإلهي ولم تصدر منه مائة معصية على الأقل من الكذب، والغيبة، وأذى الغير، والنميمة، وتعطيل حق الغير، والفحش للسائق، والمعرِّف وغيره، مما لا تتسع الورقة لبيانه[9] والله أعلم.


وعندما يبدأ الطواف، يجب أن تستولي على جميع ذرات وجوده الهيبة، والعظمة، والخوف، والخشية، والرجاء، وطلب العفو والرحمة، واذا لم ترتجف الأعضاء الخارجية، فلا أقل من أن يرتجف القلب، مثل الملائكة الذين يطوفون دائماً حول العرش، كما في الأخبار[10] اذا أردت أن تتشبه بهم.


* ويجب أن ينتبه الى أن الطواف ليس منحصراً بالطواف الجسماني، بل هناك طواف آخر هو أصل الطواف الحقيقي، وهو طواف القلب حول ذكر رب البيت، وإنما هو أصل لأن الأعمال الجسدية جعلت أمثلة للأعمال القلبية، لينتقل الانسان من تلك "الأعمال الجسدية" إلى هذه "القلبية" كما هو مضمون الرواية.


وأيضاً يجب أن يعلم أنه كما لا يمكن الوصول إلى هذا البيت بدون قطع العلاقة بالأشغال الدنيوية، والمرأة، والولد وغير ذلك، فكذلك الامر في الوصول الى الكعبة الحقيقية. إن أساس الحجب المانعة من الوصول اليها العُلقة: علاقة القلب بالدنيا.


عند تقبيل الحجر، والالتصاق بالمستجار[11] وعند استلام الحطيم[12] والتشبث بأذيال ستار الكعبة، يجب أن يكون حاله حال المذنب الفار من خوف الأذى أو خوف أن يُكْوَى، أو يقتل، فالتجأ إلى عظيمٍ ليعفو عن ذنبه، ولذا فهو تارة يقبّل يديه ورجليه، وتارة يلوذ به لواذ العاجز الحقير، تارة يبكي، تارة يقسم عليه بأعز الأشخاص عنده، تارة يتضرع، لعله ينقذه من هذه المهلكة، خاصة اذا كان من التجأ اليه من يعرف أنه لن يجد ملجأً غيره، إنه حين ذلك لا يفكر بالخروج من عنده إلا بعد أن يحصل على الأمر بالعفو عنه.


لا ورب الكعبة، إن الإنسان بالنسبة للأمور الدنيوية، كما تقدم، أما بالنسبة إلى عذاب الآخرة، فلأنه آجِلٌ ودَيْن، وليس نقداً، فإنه لا يفكر بمثل هذه الأمور[13] من التذلل والإلتجاء والتضرع.


الحجاج الذين يكون حجهم كاذباً، يركضون قليلاً حول الكعبة ثم يذهبون للتفرج على الحجارة والأسواق والجدران.


* وعندما يأتي إلى السعي يجب أن يكون سعيه، أن يجعل هذا السعي بمنزلة التردد في بيت السلطان برجاء عطائه ومنّه.


* وأما في عرفات، فليتذكر المحشر، من خلال ازدحام الخلق، وارتفاع أصواتهم بأنواع التضرع والنحيب، والإلتماس باختلاف الألسنة، وتوسل كل فئة منهم بأئمتهم طلباً للشفاعة.


فليبذل جهده في كمال التضرع والإلحاح هنا "في عرفات" حتى لا يبتلى هناك "في المحشر"، ولْيـَقْوَ ظنُّه كثيراً بحصول مراده، لأن يوم الموقف الشريف، عظيم، والنفوس مجتمعة، والقلوب منقطعة إلى الله، وأيدي الأولياء وغيرهم ممتدة إلى الله جل شأنه، والرقاب مشرئبة نحوه، العيون باكية من خوفه، والمفاصل مرتجفة من هيبته، واليوم يوم إحسان، والأبدال والأوتاد[14] في المحضر حاضرون، وقد قرر السلطان العفو والإنعام، وهو أيضاً يوم تقليد الوسام لرئيس وزراء الدولة العتيدة عجل الله فرجه، وسهَّل مخرجه.


في مثل هذا اليوم لا يستبعد حصول الفيض بأعلى مدارجه لجميع الناس والخلائق.


هل تظن أن خالقك سيُضيع سعيك مع أنك انقطعت عن الأهل والأولاد؟! ألا يرحم غربتك؟!


ما هكذا الظن به ولا المعروف من فضله.


ومن هنا ورد في الحديث:


إن من أعظم الذنوب أن يحضر أحد عرفات ويظن أنه لا يغفر له[15].أللهم ارزقنا.


وعندما يفيض من عرفات، ويتوجه إلى الحرم[16] فلينتبه إلى أن هذا الإذن الثاني بدخول الحرم سبب للتفاؤل بقبول حجه، وقربه من ربه، وأمنه من العذاب الإلهي.


وعندما يصل إلى منى فليرم الجمار[17] ملتفتاً إلى أن روح هذا العمل في الباطن إبعاد الشيطان، فإن كان كالخليل فكالخليل وإلا فلا.[18]


* وعندما يودع الحرم يجب أن يكون في منتهى التضرع، مشوَّش الحال، بحيث أن كل من رآه أدرك أنه مثل من يترك شخصاً عزيزاً، ويرحل عنه[19]مثل ترك إبراهيم إسماعيل عليهما السلام وهاجر.


ويكون قراره أنه سيرجع في أول أزمنة التمكن من الرجوع إلى هذا المكان الشريف.


ويجب أن يكون متوجهاً إلى المضيف سبحانه في كل حال، حذراً من أن يودعه بما ينافي الأدب، فيصبح المضيف لا يرضى برجوع هذا الضيف إلى بيته أبد الآبدين.


ورغم أن هذا المضيف جل جلاله سريع الرضا، إلا أن على الضيف مراعاة الأدب إلى أقصى الحدود.


* إذا استطاع، فليحرص بمقدار وسعه على الذهاب الى البقاع التي تعبّد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله  مثل جبال مكة المظلمة، يذهب إليها بقصد التشرف بمحل أقدامه المباركة، لا بقصد التفرج، بل يصلي فيها ركعتين[20] بقصد القربة المطلقة، بل يبقى فيها - إذا تمكن - مدة أطول من المتعارف.


وإذا كان حجه هو الأول، فلا يترك الدخول إلى الكعبة بالآداب المأثورة في الشرع المطهر، كما ذكر في محله.


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع