شارك هذا الموضوع

إمامة الحسن المجتبى (ع)

كانت قضية الولاية والإمامة والخلافة كمسميات مختلفة للقيادة الشرعية التي ستخلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد وفاته وغياب شخصه عن ساحة الأمة الإسلامية، هذه القضية من الموضوعات المحورية وربما هي المحور الذي لم تتوتد دعائم وأركان الدين الإسلامي إلا بعد مخاض عسير كان يتطلب إعداد مناخ ملائم قابل لتلقي هذا الأمر العظيم من قبل أفراد المجتمع الإسلامي.


وبطبيعة الحال: إن إرادة الله تعالى التي حكمت بأن يكون الإسلام خاتم الأديان والمهيمن عليها وقد قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وبذلك يكون هذا الدين يحمل خصوصيات الغلبة والتكاملية في مجمل تشريعاته وقوانينه ونظمه بحيث يتمكن من إدارة البشرية بطريقة سليمة وصحيحة.


وليس ثمة شك في أن القيادة هي حجر الأساس في بناء الدولة وهي القطب التي تنتظم حوله شؤون الأمة وإدارة أمورها، ولذلك من غير المنطقي ولا من العقل أن يعتقد البعض في أن يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد غادر الدنيا وترك أمته دونما قيادة، أو سائبة دونما رعاية فتعصف بها الأزمات والعقد وتثار على ساحتها الأضغان والأنانيات والحروب القذرة.


من هذا المنطلق كانت الولاية على درجة كبيرة من الأهمية لاستمرار تماسك جنبات المجتمع الإسلامي واستقرار أوضاعه كما كانت على مستوى كبير من الخطورة تتطلب موقفاً صريحاً وجريئاً، لأنها قد تعترض مصالح فئة من المجتمع ولا سيما تلك الفئة البيروقراطية والتي تسعى من خلال ثرواتها الحصول على موقع اجتماعي رفيع تكون فيه الواجهة المتقدمة في صفوف المجتمع... ولكن استمرارية الفئة الرسالية تتطلب ركوب الأمواج العاتية والصعود فوق المصالح والأهواء والحواجز النفسية والمادية.


ومواقف النبي (صلّى الله عليه وآله) كثيرة من الإمامة والخلافة التي عمل (صلّى الله عليه وآله) منذ بداية الرسالة الإسلامية على الإعداد والتهيئة والإعلان عن الأئمة والقادة من بعده..


ومن هذه المواقف، موقفه الشهير الذي تضافرت كل كتب السنن والتاريخ على تدوينه وشرحه بإسهاب، وأجمعت الحفظة ونقلة الأحاديث والرواة على صحته، إنه نداءٌ وبلاغٌ اذاعه وأعلنه على الألوف من المسلمين بعد رجوعه من حجّة الوداع الحجة الأخيرة التي حجّها النبي (صلّى الله عليه وآله) في آخر حياته، وعندما وصل إلى مكان اسمه ـ غدير خم ـ وقف النبي (صلّى الله عليه وآله) في حرارة الشمس والوحي يهدّد رسالته وينذره إن تأخر عن أداء ما بقي منها ويبعث في نفسه الاطمئنان والأمن ممّا كان يحاذر ويخشى من قومه.


(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).


ووقفت معه الجماهير التي حجّت في تلك السنة، نزل في ذلك المكان قبل تفرق الناس، حطّ أثقاله، التفّ حوله المسلمون ليعرفوا ما الخبر، ماذا نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) من السماء، بماذا أوحى له، صمت رهيب، الوقت هجير، صحراء قاحلة، عرف الجميع أن هناك بلاغاً هاماً خطيراً، صنع له المسلمون منبراً من أقتاب الإبل، قام خطيباً بعد أن صعد المنبر، ليشهدهم تنصيب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولاية أمر المسلمين، حيث قال (صلّى الله عليه وآله) بعد أن حمد الله وأثنى عليه:


أيها الناس يُوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا:


نشهد أنك قد بلّغت وجاهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً فقال (صلّى الله عليه وآله): أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنّته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟


قالوا: بلى. نشهد بذلك.


قال (صلّى الله عليه وآله): اللّهم اشهد: ثم قال (صلّى الله عليه وآله): يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليّاً ـ اللّهم والِ من والاه وعاد من عاداه ثم قال:


يا أيها الناس إنّي فرطكم، وإنكم واردون عليّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصرى إلى صنعاء، إلى أن قال في خطبته، وإني سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، كيف تخلفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله تعالى، وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدلوا، والثقل الآخر: عترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا عليّ الحوض.


بدأت تتردد أصداء هذه الكلمات العظيمة في صحراء خم وسمعها مائة ألف مسلم، كما ترددت في بطون كتب الرواة والمؤرخين واتفق المسلمون بالإجماع على حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) في حق الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام). وجاء الخليفة عمر بن الخطاب إلى علي (عليه السلام) فقال: بخ بخ لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.


ونص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على الأئمة والخلفاء من بعده بأمرٍ من الله عزّ وجلّ وهذا ما اعترف بصحته الأعلام من السنة والشيعة كما رواها الفريقان بأحاديث كثيرة وأسانيد متعددة ونصوص مختلفة.


منها: ما روي عن جابر ابن سمرة قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، فكبّر الناس وضجوا، ثم قال كلمة خفيت عليّ: قلت لأبي: يا أبة ما قال؟ قال: كلّهم من قريش. وروي عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة: أنه سمع النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من بني هاشم.


وجاء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوله للإمام علي (عليه السلام): أنا أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ثم أنت يا علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعدك الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم بعده الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم بعده محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده عليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده عليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم بعده الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والحجة بن الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم أئمة أبرار هم مع الحق والحق معهم.


أما عن ولاية الحسن (عليه السلام) ففي حديث ابن عباس الذي مر ذكره قال النبي (صلّى الله عليه وآله): أما الحسن فإنه ابني وولدي ومنّي، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة الله على الأمة، أمره أمري وقوله قولي، من تبعه فإنه مني، ومن عصاه فليس مني.


غير أن الأمة لم تتبع أمر الله ورسوله وإنما بئس ما خلفته هذه الأمة في أهل بيته (عليهم السلام) حينما أعرضت عن الإمام الحق والوصي الشرعي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) ودخلت في أتون الصراع السياسي المحتدم في مؤتمر السقيفة.


بالطبع لم يكن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بمنأى عن الحوادث الواقعة بعده بل كان على يقين تام بأن الأمة ستعيش نكسات خطيرة وانعطافات أخطر، ولعل قوله (صلّى الله عليه وآله) إلى أهل بيته (عليهم السلام) وهو في مرضه الذي انتقل بسببه إلى الرفيق الأعلى: (أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم). لعل في ذلك إشارة إلى الحوادث التي يتعرض لها أهل البيت (عليهم السلام) من بعده (صلّى الله عليه وآله) ولذلك قبل أن يفارق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحياة يوصي أهل بيته (عليهم السلام) بالصبر والجلد أمام الامتحانات والابتلاءات التي ستحل بدارهم وعليهم من قبل الحاقدين والطامعين وقبل الوداع بدأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقسّم الإرث على أهل بيته (عليهم السلام) حتى إذا وصل إلى الحسن (عليه السلام) قال: أما الحسن فأنحله الهيبة والحلم.


ثم ألقى نظرته الأخيرة على أهل بيته فكان يودع الواحد تلو الآخر، إلى أن اقتربت آخر لحظات حياته فكانت آخر دعواه (صلّى الله عليه وآله): (اللّهم خفف عن أمتي) وبعده صعدت روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى.


ولقد خلف غياب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فراغاً كبيراً كما أحدث جرحاً لا يندمل مع مرور الزمن، فكان دور الإمام علي (عليه السلام) في أن يتحمل انهدام الركن الأول والأساس في بيت الرسالة، كما عليه أن يحاول رأب الصدع حتى يبقى البيت النبوي ثابتاً ومستقراً ويظل مركز إشعاع فكري وروحي لكل المسلمين بصورة مستمرة دونما انقطاع أو توقف.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع