شارك هذا الموضوع

نظرة إلى خصائص عصر حكومة علي (عليه السلام)

نهج البلاغة هو تلك المقتطفات التي جُمعت بهمِّة وسعي السيد العظيم الشريف الرضي، وبحمد الله كان حتى يومنا هذا مرجعاً للخواص وللعلماء، وليس مجرد محور للمعرفة والثقافة العامة للناس، ولعله منذ أن جمع هذا الكتاب إليه وفيما يتناسب وأوضاع هذا الزمان والمكان. ولاشك أن أهمية (نهج البلاغة) ترجع إلى جهات عدة . ولعله يمكن القول أن (نهج البلاغة) بما يتضمنه يعتبر من أكثر المباحث والمعارف الإسلامية عمدة، فكل ما يلزم الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي موجود في (نهج البلاغة): من التوحيد والعقائد الإسلامية وأصول الدين إلى الأخلاق والتهذيب وتزكية النفس، فالسياسة والإدارة وقيادة المجالات الواسعة للنشاطات الاجتماعية إلى تنظيم الروابط الأخلاقية والعائلية، إلى الحرب والحكمة والعلم و...


فمطالب هذا الكتاب التي تشكل بمجموعها دروس الحياة الاجتماعية للمسلمين لم تطرح بصورة بعيدة عن الحياة, فصاحبها هو رئيس دولة وحاكم كبير كانت سلطته مبسوطة على بلاد واسعة جداً. هذا الإنسان العظيم الذي كان يحمل على عاتقه مسؤولية الحكم والقيادة، نطق بهذه الكلمات انطلاقا من شعوره بهذه المسؤولية الكبرى.


(نهج البلاغة) ليس مثل كتب الحكماء الذين يجلسون بعيداً عن ضوضاء الحياة وضجيج واقعياتها وقضاياها المختلفة ليبينّوا المعارف الإسلامية، بل هو كلام إنسان عميق الغور في معرفة الدين حمل هموم قيادة مجتمع كبير، وهو يمتلك بصيرة بكل المعارف الإسلامية والقرآنية، يضج قلبه بالمعرفة وهو في مقام المسؤولية، يتعاطى مع الشعب ويخاطبه ويجيبه عن أسئلته واستفهاماته. هذه هي الأرضية التي صدر منها (نهج البلاغة)، ومن هذه الجهة يتفرق عن جميع الروايات التي لدينا عن الأئمة المعصومين (عليه السلام). فالأئمة الأطهار (عليه السلام) لم يعيشوا في عصر حكومة يرتضونها، بل كانوا في ظل أزمنة القمع والتنكيل. ولم تكن القضايا تجري على ألسنتهم من موقع الحاكم والمسؤول عن إدارة دولة.


أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فلقد كان يتحدث بعنوان الحاكم الإسلامي متوجهاً إلى مجتمع يعيش تحت إشرافه وحاكميته، وهذا ما يمثل القسم الأعظم من (نهج البلاغة). وما بقي هو نزر يسير مما يصدر منه (عليه السلام) قبل عصر حكومته.


نحن اليوم نعيش في مثل تلك الظروف، ومجتمعنا يمر بمثل تلك الظروف.


ومن الواضح أن نهج البلاغة ليس مختصاً ببلدنا، بل هو لكل العالم الإسلامي، هذا العالم الذي يتجه اليوم نحو صحوة وحياة إسلامية جديدة.


وفي بلدنا ومجتمعنا، وصلت هذه الثورة إلى شاطئ النصر والفلاح في ظل تعاليم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبالاعتماد والرجوع إلى القرآن ونهج البلاغة, بحيث أصبح مجتمعنا قريب في أكثر أبعاده من (القرآن ونهج البلاغة).


فاليوم هو يوم الاستفادة بكل ما أمكن من (نهج البلاغة), وفي هذا المجال سأقدم المزيد من التوضيح.


إن الظروف التي كانت محيطة بعصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تتفاوت وتختلف عن ظروف عصر حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ففي عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان المجتمع مجتمعاً إسلامياً من جميع الأبعاد، أي أن توجهه كان توجهاً إسلامياً بالكامل.


ولكن الخصوصية التي طبعت هذا العصر طيلة السنوات العشر الأخيرة من عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحكومة الإسلامية هي أن الصفوف كانت واضحة، وكانت الشعارات الإسلامية شعارات مشخصة وواضحة ومحددّة.


كان الصف الذي يقف مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علنياً ومشخصاً, وكان كل من العدو والصديق معروفاً, حتى حركة النفاق التي ظهرت في المجتمع الإسلامي منذ بداية تشكيل الحكومة الإسلامية، وفي الحد الأدنى في مرحلة تواجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، فإنها لم تستطع أن تجعل المجتمع تحت تأثير ما يمكن أن تؤدي إليه حركة النفاق، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حاضراً, وكانت الآيات التي تشير إلى المنافقين وتفضح تحركاتهم تنزل تباعاً، تهددهم وتفضحهم، والكثير منهم قد فضحوا وانكشفوا من خلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الآخرون يتعرفون عليهم.


نعم، كان للنفاق تحرك ونشاط مؤذٍ، ولكن بشكل عام، كان الجو الغالب على المجتمع الإسلامي هو جو الصراحة والوضوح.


وأولئك الذين شاركوا في الحروب ضد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت عداوتهم وأبعادها معروفة، كذلك كان مدى قربهم وبعدهم عن الإسلام معلوماً, لقد كان واضحاً مقدار مخالفة اليهود وقريش والقبائل الأخرى.


ومن البديهي أن المسلمين حينها لم يكونوا حيارى فيما يتعلق بكيفية مواجهة أعداء الإسلام والمسلمين.


خاصية الزمان
أما عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يكن فيه هذه الخصوصية، مما جعل حكومته تقف أمام أكبر المشاكل وأصعبها, تلك الحكومة التي استمرت أقل من خمس سنوات.


ففي عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما كان الصفان أو الجيشان يلتقيان، كان كلاً منها يؤدي الصلاة, وإذا حل شهر رمضان كان الكل يصوم, وكانت أصوات وأصداء تلاوة القرآن الكريم تسمع من المعسكرين.


كان المسلمون في الجانبين عندما يتواجهون لا يشعرون بنفس الوضوح والصراحة وراحة البال التي وجدت وسادت في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).


لهذا، وفي معركة صفين كانت الأسئلة والشبهات والتردد والحيرة تبرز من حين إلى آخر.


وكان أولئك الذين أسلموا قديماً، وعاشوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولادة الحكومة الإسلامية ـ كعمار بن ياسر ـ حلاّلاً للمشاكل والعقد, ولكن الكثير كان حائراً أو مشوشاً.


ففي الحوادث التي جرت في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن اختلاف وتباين الصفوف واضحاً, ولقد كان الاشتراك في الشعارات يملأ الأجواء إلى الدرجة التي جعلت أمير المؤمنين (عليه السلام) يكرر مراراً: (لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر)[1] فالمقاومة لا تكفي لوحدها بل يلزم الوعي والذكاء وحدة البصر.


هذه هي خصوصية عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذه هي آلامه وأوجاعه (صلوات الله عليه).


نحن نعيش اليوم في عالم كبير مليء بالشعارات الجملية والبراقة التي تخلب الأبصار، تقريباً مثل ذلك العصر، ونواجه كذلك هذه الواقعية في عالمنا الإسلامي الذي تتفاوت فيه الرؤية الإسلامية والوعي الإسلامي كما يتفاوت الإيمان عن الكفر.


اليوم، نجد أن أوضح وأجلى الحقائق الإسلامية يتمّ التغاضي عنها وإهمالها من قبل بعض مدّعي الإسلام في البلاد الإسلامية، اليوم هو نفس ذلك اليوم الذي كانت الشعارات فيه متشابهة، ولكن التوجهات متغايرة بشكل تام.


اليوم تتشابه الظروف مع ظروف حكومة عصر أمير المؤمنين (عليه السلام), فالعصر إذاً عصر نهج البلاغة.


واليوم يمكن أن نبصر الوقائع العالمية والظروف الاجتماعية من خلال النظر الدقيق والنافذ لأمير المؤمنين (عليه السلام) وندرك الكثير من الحقائق ونتعرف إلى علاج الآلام والمشاكل.


هذا الذي يجعلنا محتاجين اليوم إلى (نهج البلاغة) أكثر من أي وقت آخر.


كانت هذه إحدى الجهات التي تبين لنا ضرورة العودة إلى نهج البلاغة، والى هذه الباقة التي جرت على لسان أمير المؤمنين ومولى المتقين (عليه السلام).


واليوم إن كل ما يضاف من العمل عليه وحوله ـ من إعداد المقدمات التي تجعلنا أكثر قدرة على فهمه والاستفادة منه ـ هو أكثر ضرورة ولزوماً من أي وقت آخر.


الحقيقة الأخرى التي تطرح نفسها وتجعلنا اليوم أكثر احتياجاً إلى نهج البلاغة وأشد رغبة به، هي أننا كنا طوال التاريخ وللأسف نعاني من التحريف فيما يتعلق بالمعارف الإسلامية التي هي بين أيدينا بسبب اعوجاج الفهم والجهالة من جانب، وبسبب الأغراض السيئة للأعداء من جانب آخر.


فطوال تاريخ الإسلام، كان الجهل موجوداً، وكذلك الرؤى الضيّقة والأهواء التي كانت تؤدي إلى عدم التعرف الصحيح إلى الحقائق والمعارف الإسلامية, بالإضافة إلى الأغراض والمآرب والخيانات وتعمّد تحريف الإسلام منذ بداية عصر ظهور الإسلام من قبل المتجبرين والأشخاص الذين كانوا يرون في صفاء الإسلام ووضوحه خطراً على مصالحهم.


وكنا طوال تلك الفترات محتاجين إلى الينابيع الخالصة والأفكار الإسلامية الصافية والنظام الفكري الذي يمكن الاعتماد عليه.


ولحسن الحظ كان القرآن الكريم دائماً في أيدي المسلمين, وإن لعبت بفهمه تلك الأيادي السوداء, والأنظار المعوجة والمآرب السيئة, ولكن بحمد الله بقي متن القرآن سالماً وبعيداً عن أي تدخل وتصرف مغرض أو جاهل, ولكن هذا لا يعني عدم ضرورة الإبقاء على سلامة ومتانة الينابيع الأخرى الصافية للمعرفة عند المسلمين كما هو حال القرآن عندهم.


فمع إتّساع نطاق الثقافة الإنسانية وتعمق المعرفة الحاكمة على الناس، فإن هذا العصر هو عصر يوجب على البعض أن يعملوا على جمع تلك المعارف التي يمكن أن تزيد من طمأنينة الإنسان وإيمانه والتي لم تتعرض للتحريف وبقيت خالصة وسالمة، وأن يضعوها بين أيدي أهل الاستنباط والاجتهاد والمفكرين والخبراء، خصوصاً بعد مرور زمان طويل يفصلنا عن صدر الإسلام.


هذا العمل الذي كان ينبغي أن ينجز بالنسبة لما يتعلق بالأحاديث، قد قطعه نهج البلاغة.


فهذا الكتاب قد قطع هذه المسافة الزمنية الطويلة التي فصلتنا عن صدر الإسلام في أقرب مدة وأسلم رؤية بالنسبة للمعارف الإسلامية.


ولو قمنا بالتحقيق حول نهج البلاغة، وجمعنا ذلك المقدار من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) التي لم تذكر في نهج البلاغة، وعملنا على التحقيق في سندها والخصائص التي تجعلها معتبرة ومسلّمة وقطعية، وأوصلنا نهج البلاغة إلى مجموع الخطب الخمسمائة التي نُقلت عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، نكون بذلك قد قدَّمنا خدمة كبرى للمعارف الإسلامية في القرن الهجري الخامس عشر, ونكون أيضاً قد قدمنا للمسلمين مع مرور هذه الفترة المديدة عن صدر الإسلام، نبعاً غنياً لا ينضب، وهو مورد قبول جميع المؤمنين بالإسلام.


وهذه المجموعة المطلوبة ستمدنا بفهم صحيح للإسلام، وما أعلى ما سترتقيه أفهامنا فيما يتعلق بالمعارف الإسلامية حينها.


وهذا العمل ممكن، خصوصاً في ظل نظام الجمهورية الإسلامية التي قامت على أساس القرآن و (نهج البلاغة).


إن هذا العمل ينبغي أن يحصل حتماً، وأملنا بمساعي الأخوة الأعزاء في مؤسسة (نهج البلاغة) وكل الذين يساعدونهم أن يعملوا على تحقيق هذه الخدمة الكبرى لعالم الإسلام.


تصوير شخصية علي (عليه السلام) في نهج البلاغة


بعدٌ آخر من الأبعاد القيمة والمهمة لنهج البلاغة هو ما يرتبط بتصوير شخصية أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، والذي نحن بأمس الحاجة إليه في أيامنا هذه.


فأمير المؤمنين (عليه السلام)، هذه الصورة المجهولة، وهذا الإنسان السامي والنموذج الإسلامي الكامل الذي أراد الإسلام صناعة البشر على أساسه، يمكن التعرف إليه من بين سطور وأوراق نهج البلاغة بشكل كامل.


فنهج البلاغة في الحقيقة هو كتاب معرفة علي بن أبي طالب (عليه السلام).


فهل يمكن أن يوجد شخص يصف ويبيّن بهذه الروعة والجمال تلك الأسرار والآفاق العجيبة للمعرفة الموجودة في نهج البلاغة وهو غير واصل إليها.


في نهج البلاغة نجد جميع أبعاد الشخصية الإنسانية الكاملة: من المعرفة والأخلاق، والخصال الخاصة للإنسان التي هي من مختصات تعاليم الإسلام، نجدها مجسدة في إنسان كامل هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليس هذا الأمر مهماً من جهة التعرف إلى شخصية أمير المؤمنين فحسب، بل من جهة التعرف إلى الإسلام، وبرامجه في صناعة مثل هذا الإنسان.


اليوم تسألنا البشرية المعاصرة لنا: (ما هو الإنسان الذي يعدّه ويبنيه هذا الإسلام الذي تتحدثون عنه، وتعتقدون أن رسالته عالمية). ولأجل الإجابة، ينبغي أن نسأل أنفسنا من هو الشخص الذي يمكن إظهاره وهو أفضل وأعظم وأعلى وأكثر جامعية من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما ينبغي أن نعتقد بأن شخصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليست بارزة في أي مكان آخر مثل (نهج البلاغة).


لقد قيل الكلام الكثير والعميق حول عظمة هذا الكتاب وكلماته وخطبه، ويمكن إضافة الكثير أيضاً.


وأنا أتحدث هنا من باب الإشارة لأشكر من صميم قلبي أولئك الذين أقاموا هذا المؤتمر وسابقه, وهذا النشاط الذي يهدف التعرف إلى نهج البلاغة.


فرغم أنه قد مضت فترة طويلة نسبياً خرج فيها نهج البلاغة من عالم الإهمال ووصل اسمه إلى أسماع الناس وصار منتشراً بينهم، إلا أنني ما زلت أرى ضرورة القيام بالتحقيقات العلمية والشاملة حول (نهج البلاغة).


والأعمال التي أنجزت بهذا الصدد وذكرت في الكتاب التعريفي عن نهج البلاغة، كلها مورد تقديرنا وشكرنا.


تبويب مطالب نهج البلاغة وشرح الأجزاء الأساسية
لعل الكثير من الأعمال التي أنجزت على مدى أكثر من ألف سنة من تدوين هذا الكتاب الشريف ما زالت في المكتبات بصورة مخطوطات، وينبغي البحث عن هذه الأعمال القيّمة, وربما قد تعرَّض بعضها للتلف نتيجة حوادث الزمان.


إحدى الأعمال التي ينبغي أن ينجزها هذا المؤتمر إعداد فهرس لأهم التحقيقات التي ينبغي إعدادها حول نهج البلاغة وعرضها على العلماء, ولعلّه يمكن تعداد عشرات الأعمال اللازمة التي يحتاجها هذا الكتاب، مما ينبغي القيام بها فردياً أو جماعياً.


وبهذه الطريقة يعلم العلماء والمؤلفون وأصحاب الرأي والمشغوفون بنهج البلاغة ما هي الأولويات في هذا المجال.


وهنا سوف أشير إلى عدة أعمال تحوز على أهمية وضرورة مبرمة.


ترجمة نهج البلاغة إلى الفارسية
إنني بالطبع مطّلع تقريباً على ما أنجز، ولا أريد ـ لا سمح الله ـ أن أنظر إلى الجهود الكبيرة في مجال نقل نهج البلاغة إلى الفارسية نظرة عدم تقدير.


ففي المؤتمر الذي عقد قبل ثلاث سنوات ووفقت للمشاركة فيه أعربت عن شكري للعالم الجليل فيض الإسلام الذي ترجم نهج البلاغة لأول مرة إلى اللغة الفارسية وجعله بمتناول الناطقين بها.


وأنا اليوم أعرب عن تقديري مرة أخرى, وكذلك أشكر كل الذين ترجموا هذا الكتاب ضمن ترجمات منتخبة أو حرة، بصورة بيان المعنى.


لكن أريد أن أقول أن مكان الترجمة الكاملة والشاملة لنهج البلاغة، كما هو مكان الترجمة الواضحة والمناسبة للقرآن، ما زال خالياً في مجتمعنا، وبرأيي فإن القصور والغفلة التي ما زالت لحد الآن هي سبب التقاعس عن هذا الأمر.


إنني أرجو من مؤسسة نهج البلاغة أن تتابع هذه القضية بصورة عاجلة وجدية، وكذلك أكرر طلبي ورجائي للذين يمكنهم أن يعدوا ترجمة جيدة للقرآن الكريم.


لقد تأخرت الجمهورية الإسلامية بعد خمس سنوات شيئاً ما في هذا المجال, وينبغي الإسراع فيه، وكلما مرّ الوقت ازداد التأخر، وأعتقد أنه لا إشكال في أن يبدأ عدة أشخاص بترجمة هذين الأثرين المقدسين ويسعوا جهدهم لإنجازهما.


وعلى كل حال لن تكون هناك ترجمة كاملة تماماً، حتى إذا سمعنا أن شخصاً يعمل على ترجمة (نهج البلاغة) أو القرآن فنسحب أيدينا من هذا العمل.


فليبدأ كل من يجد في نفسه الشوق والرغبة بهذا العمل, ولو كان لدينا عشر ترجمات جيدة جداً لهذين الكتابين الشريفين فليس هذا بالأمر الزائد.


ولا يوجد أي إشكال في وجود طبائع وأذواق متعددة وآراء مختلفة، كل واحد منها يبيّن الآية أو الجملة من زاوية أو بعد خاص ويُقرِّب القارئ إلى المعاني الواقعية. وعليه، أرى أن هذا العمل يتمتع بالأولوية في أيامنا هذه[2].


تبويب نهج البلاغة
من الأعمال الأخرى الضرورية في مورد نهج البلاغة، هو التبويب ضمن عناوين، أي التصنيف الموضوعي.


طبعاً، هناك أعمال أنجزت في هذا المجال، وبعض المحققين والعلماء الكبار في زماننا قام بمثل هذا العمل، وطبع له عدة مجلدات، وهو في مقامه قيّم, ولكن تحت العناوين الكلية، التي أظن أنها قد بلغت عنده ثلاثين عنواناً، يمكن التفريع إلى عشرات العناوين الأخرى[3].


وهذا العمل أيضاً مكانه بالنسبة للقرآن ما زال خالياً ولم ينجز بعد.


يجب أن نكتب تفصيلاً للآيات يشمل معظم المواضيع التي أشير إليها في القرآن والتي لم نتمكن إلى اليوم من الوصول إليها.


أما في مورد نهج البلاغة، فإن إعداداً مفصلاً لمطالبه وموضوعاته له أهمية قصوى.


فهذا الكتاب هو حقاً محيط عميق لا متناهٍ، ولا يوفق الجميع للسير فيه كما هو أهل له، أن يتحقق لهم الغور فيه.


في حين أن الكثير من مطالب ومعارف هذا الكتاب مما هو ضروري وممكن لعامة الناس، لذا ينبغي أن نحقق هذه الإمكانية لهم وللباحثين والمحبين لكي يصلوا إلى ما يبحثون عنه بسهولة.


التبويب بلحاظ اعتبار السند
من الأعمال الأخرى التي من المناسب القيام بها في نهج البلاغة، هو التبويب بلحاظ اعتبار السند, ولاشك بأن بعض نهج البلاغة يتمتع بمستوى عالٍ من الاعتبار والوثوق الروائي, وبعضه ليس بهذا المستوى.


وحول أسانيد نهج البلاغة أنجزت بعض الأعمال وطبعت عدّة كتب، إثنان أو ثلاثة أو أكثر, ولعلّه وجد عند القدماء مثل هذا العمل مما لم يطّلع عليه الكثير.


ولكنه يلزم القيام بإعداد تبويب ترتيبي بلحاظ السند واعتباره, بحيث إذا رجعنا إلى إحدى الخطب أو الكلمات أو الرسائل، نعلم مدى اعتبارها بلحاظ السند وإلى أي مدى يمكن الاعتماد عليها، وبالطبع يمكن إعمال جميع الشواهد والقرائن في هذا المجال, وهذا الأمر وإن لم يكن مورد حاجة لعامة الناس، ولكنه حتماً يحوز على أهمية عند المحقّقين والعلماء والمهتمين بهذا الحقل.


ترجمة مفردات نهج البلاغة
وعمل آخر ينبغي القيام به هو ترجمة مفردات نهج البلاغة للناطقين بالفارسية، وكذلك للناطقين بالعربية.


وطبعاً، يوجد في هوامش بعض طبعات نهج البلاغة من قام بهذا العمل مثل المرحوم محمد عبده وغيره، ولكن هذا ليس كافياً.


إنّ هذه المفردات المنتشرة في هذا الكتاب بثقلها الأدبي وأصولها الفنية وفصاحتها وبلاغتها الخارقة تحتاج إلى عمل مستقل، أوسع من شرحها الأولي.


وخلاصة الأمر أنه ينبغي إعداد تفسير كامل وعميق لمفردات نهج البلاغة.


ربط الأجزاء المتفرقة للخطبة الواحدة
إحدى الأعمال التي كنت أشعر بأهميتها منذ فترات، هو القيام بوصل الأجزاء المتفرقة لبعض الخطب التي كان السيد الرضي (رحمة الله عليه) قد فصلها.


لقد لاحظتم في بعض الخطب أنه في وسطها يقول (ومنها) ولاشك أنه قد أسقط شيئاً من الخطبة, وإلا لم يلزم أن يقول (ومنها).


وفي بعضها يعلم أن الخطبة لم تنتهٍ, ولعلنا نستطيع أن نجد الضائع أو المفقود منها في نفس نهج البلاغة، وحتماً الكثير منها يمكن العثور عليه في كتب الحديث المختلفة.


على أية حال، قد نجد قسمين من خطبة واحدة في غاية الأهمية، ولكن يوجد بينهما فراغ، لهذا ينبغي على أصحاب الهمم أن يعملوا على متابعة هذا الأمر والعثور على هذه الفراغات لتعبئتها، حتى نصل قدر الإمكان أجزاء الخطبة المتفرقة ببعضها البعض.


وأنا أعتقد أن المرحوم السيد الرضي، رضوان الله عليه قد صنّف هذا الكتاب وهو ناظر إلى الفصاحة والبلاغة والجماليات الفنية أكثر من أي شيء آخر، والعنوان الذي أطلقه على الكتاب يؤيد هذه الفكرة، واليوم فإن مسألة البلاغة في هذا الكتاب ليست في الدرجة الأولى من اهتمام شعبنا، بل المضمون والمحتوى.


إننا بحاجة للمضامين والمعاني.


وفي الأساس أكثر الناس لا يفهمون شيئاً من جمال هذه الكلمات، فنحن نتكلم بالفارسية.


ولعلّ الكثير من الناطقين بالعربية أيضاً، ومع مرور أكثر من ألف وثلاثمائة سنة على صدور هذه الكلمات، وبسبب التحول والتبدل الذي طرأ على اللغة بشكل طبيعي، لا يتمكنون من إدراك الشيء الكثير من فصاحة وبلاغة وجمال ما ورد فيه.


لهذا، ينبغي أن نعدل عن تلك الرؤية التي حكمت تدوين هذه المجموعة من باب البلاغة والفصاحة والقيم الفنية, ولا أقول أن نغضّ النظر عنها كلياً، لأن هذا الوجه من الناحية الأدبية يتمتع بمزايا خارقة، ومعروف أن القيم والمزايا الفنية تساهم كثيراً في بقاء أي نص وفي تأثيره العميق وانتشاره الواسع.


فهذا مما لا شك فيه، إلا أن الأمر الذي يحوز على الدرجة الأولى من الأهمية بالنسبة لنا اليوم هو المضامين.


وفي هذا المجال يوجد الكثير من الأعمال التي يمكن القيام بها.


وكما ذكرت فإنني أكرر اقتراحي الأول:


أعدّوا فهرساً لكل الأعمال الضرورية واللازمة في نهج البلاغة، لكي يتضح ما هي الأمور المناسبة. ولا يوجد أدنى شك أن هذا سيوجد الرغبات والحوافز والابتكارات والمجالات الجديدة.



التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع