شارك هذا الموضوع

في ذكرى استشهاد راهب بني هاشم الإمام موسى بن جعفر (ع)

في ذكرى استشهاد راهب بني هاشم الإمام موسى بن جعفر (ع)



تمر اليوم على قلوب المسلمين المؤمنين جميعا ذكرى حزينة تعتصر فيها القلوب وتنزف دما ودمعا مدرارا وهي ذكرى استشهاد باب الحوائج الامام موسى بن جعفر«ع» فقد عاش الامام موسى بن جعفر«عليه السلام» معظم حياته لغيره، فكان أبرّ الناس بالناس، يعطف على الضعفاء، ويساعد الفقراء بصرره المعروفة باسمه، وأثلج قلوب المحتاجين بهباته الدائمة وعطاياه السخية ليخفف عنهم مرارة العيش وشقاء الحياة... وهذا الفعل فعل جده الامام علي بن ابي طالب«عليه السلام» الذي كان يحمل على ظهره الشريف الحصص«التموينية» ليوزعها على الفقراء والمحتاجين وهو فعل الامام الحسن«ع» الذي اختار اساليبا جديدة في التصدق ومساعدة الفقراء والمحتاجين وكذلك فعل الامام الحسين سيد شباب اهل الجنة الذي ارتبط بفعله القول المآثور:« ماخاب من حرك دون بابك الحلقة» وبالتأكيد هو فعل أئمة اهل البيت «عليهم السلام» سفن النجاة... لكن الامام موسى بن جعفر ارتبطت هذه الصفة المهمة في القابه فهو باب الحوائج.. لانه عند الله للحاجات قاضيا كما يقول شاعر اهل البيت المعاصر مزهر العلوي الزيدي: اتيتك يامولاي للحاج قاصدا.... لانك عند الله للحاج قاضيا
واعرف يا مولاي اني بفضلكم... سآفي وحق الله لست مغاليا
وتصدق الإمام «ع» ببعض أراضيه على أولاده وسجّل ذلك في وثيقة، والزم أبناءه بتنفيذ مضامينها، والعمل على وقفها، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر بأرضه مكان كذا وكذا - وقد عيّن ذلك - كلها: نخلها وأرضها وماؤها وأرجاؤها وحقوقها وشربها من الماء وكل حق هو لها في مرفع أو مطهر أو عيص أو مرفق أو ساحة أو مسيل أو عامر أو غامر تصدّق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء يقسم واليها ما أخرج الله عزّ وجلّ من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها ومرافقها وبعد ثلاثين عذقاً يقسم في مساكين أهل القرية، بين ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن تزوجت امرأة من ولد موسى بن جعفر فلا حقّ لها في هذه الصدقة حتى ترجع إليها بغير زوج، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى، ومن توفي من ولد موسى وله ولد فولده على سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين على مثل ما شرط موسى بين ولده من صلبه. ومن توفي من ولد موسى ولم يترك ولداً رد حقه على أهل الصدقة وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق إلا أن يكون آباؤهم من ولدي، وليس لأحد في صدقتي حق مع ولدي وولد ولدي وأعقابهم ما بقي منهم أحد، فإن انقرضوا ولم يبق منهم أحد فصدقتي على ولد أبي من أمي ما بقي منهم أحد، ما شرطت بين ولدي وعقبى، فإن انقرض ولد أبي من أمي وأولادهم فصدقتي على ولد أبي وأعقابهم ما بقي منهم أحد فإن لم يبق منهم أحد فصدقتي على الأولى فالأولى حتى يرث الله الذي يرثها وهو خير الوارثين.
تصدّق الإمام موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح، صدقة حبيساً بتاً لا مثنوية فيها ولا رداً أبداً ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ولا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها أو ينحلها أو يغير شيئاً ممّا وضعتها عليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وجعل صدقته هذه إلى علي وإبراهيم فإن انقرض أحدهما دخل القاسم مع الباقي في مكانه، فإن انقرض أحدهما دخل إسماعيل مع الباقي منهما، فإن انقرض أحدهما دخل العباس مع الباقي منهما، فإن انقرض أحدهما فالأكبر من ولدي يقوم مقامه فإن لم يبق من ولدي إلا واحد فهو الذي يقوم به...».
هذا الموقف الذي هو بعض ميراثه وخيراته، وقد خص به أبناءه وذريته لأجل أن تقوم تلك الغلة بشؤونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس.


ترفع الإمام من المطالبة بإطلاق سراحه


مكث الإمام «ع» زمناً طويلاً في سجن هارون، فطلب منه جماعته من شيعته الخاصة أن يتصل مع بعض الشخصيات المقرّبة عند هارون ليتوسطوا في إطلاق سراحه، فترفّع وامتنع عن ذلك وقال لهم: «حدّثني أبي عن آبائه أن الله جل وعلا أوصى إلى داود أنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني وعرفت ذلك منه إلا قطعت عنه أسباب السماء، وأسخت الأرض من تحته»
تدل هذه البادرة من الإمام المعصوم «ع» على مدى إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وانقطاعه إليه، ورضائه بقضائه، وترفّعه من سؤال أي أحد من المخلوقين. لقد تذكر «ع» قول جدّه الرسول الأكرم عندما قال:
«اللهم أكفنا ذل السؤال» وقوله «ص»: «اليد العليا خير من اليد السفلى» وما حدث مع الإمام «ع» عكس ما طلب منه لقد أرسل كتاباً إلى هارون وهو في السجن يعبر فيه عن سخطه.
وأرسل الإمام «ع» وهو في السجن رسالة لهارون أعرب فيها عن سخطه البالغ عليه، قال فيها:
«إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء وهناك يخسر المبطلون»
في هذه الحياة تحمّل الإمام «ع» الآلام المبرحة والجزع الدائم من السجن لكنه سوف ينتظر اليوم العظيم الذي سيحاكم فيه خصمه الطاغية عند الله، يوم يخسر فيه المبطلون والظالمون.
وحاول الرشيد اغراء وفتنة الامام «ع» حيث ارسل الى سجنه جارية بارعة في الجمال، بيد أحد خواصه لتتولى خدمته، علّ الإمام يفتتن بحسنها في اعتقاد هارون.
فلما وصلت إليه قال«ع» لمبعوث هارون:
«قل لهارون: بل أنتم بهديتكم تفرحون لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها» فرجع الخادم ومعه الجارية وأبلغ هارون قول الإمام فغضب غضباً شديداً وقال للخادم: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخدمناك، واترك الجارية عنده وانصرف».
رجع رسول هارون وترك الجارية الحسناء عند الإمام، وأبلغه بمقالته ثم أنفذ هارون خادماً إلى السجن ليراقب ويتفحص حال الجارية. فلما انتهى إليها رآها ساجدة لا ترفع راسها وهي تقول: «قدّوس، قدّوس» فمضى الخادم مسرعاً وأخبر هارون بحالها فقال: سحرها والله موسى بن جعفر عليّ بها!».
فجيء بها إليه، وهي ترتعد خوفاً فشخصت ببصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجّده، فقال لها هارون: ما شأنك؟
قالت: شأني الشأن البديع، إني كنت عنده واقفة، وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلما انصرف من صلاته قلت له:هل لكَ حاجة أعطيكها؟ فقال «ع»: وما حاجتي إليكِ؟
قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك. قال الإمام «ع»:
فما بال هؤلاء - وأشار بيده إلى جهة - فالتفت، فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصائف ووصايف لم أرَ مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليها الحرير الأخضر، والأكاليل والدرّ والياقوت وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كل الطعام فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت، فقال لها هارون والحقد يتطاير من عينيه لأن مؤامرته باءت بالفشل فقال: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمتِ فرأيتِ هذا في منامك.
فقالت: لا والله يا سيدي، رأيت هذا قبل سجودي، فسجدت من أجل ذلك.
فالتفت هارون إلى خادمه، وأمره باعتقال الجارية، ليخفى الحادث تماماً، لئلا يسمعه الناس. فأخذها الخادم، واعتقلها عنده، فأقبلت على العبادة والصلاة، فإذا سئلت عن ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح، وقالت إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة، إبعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه فنحن له دونك، وبقيت عاكفة على العبادة حتى لحقت بالرفيق الأعلى۰
تبارك الله بهذا الإمام العظيم الذي يغيّر أسماء الأشياء من قبيح إلى جميل ومن سيء إلى حسن ومن شرير إلى صالح ومن كافر إلى مؤمن، كل ذلك بعمق إيمانه ولطف محبته وسمو أخلاقه وغزارة علمه فكانت له تلك الكرامات بين الناس جميعاً. فحارسه انقلب إلى صديق والجارية الخليعة انقلبت إلى مؤمنة صالحة.
والغريب ان هارون شاهد كل هذه المعجزات والكرامات للامام «ع»؟ فلماذا لم يؤمن بها؟ ولماذا زاغ قلبه؟ ولما استولت على نفسه دكنة قاتمة أنسته ذكر الله واليوم الآخر؟ كل ذلك حب الجاه والسلطان، حب المال والدنيا الفانية!


محاولة اغتيال فاشلة


تحدث الناس في مناقب الإمام«ع» وانتشرت فضائله بين الجموع وأصبح أحدوثة العصر بعلمه وحلمه، وصبره وبلواه، ضاق صدر هارون من ذلك وعقد العزم على اغتيال الإمام المظلوم ثانية فدعا برطب فأكل منه ثم أخذ إناءً ووضع فيه عشرين رطبة، وأخذ سلكاً فعركه في السم وأدخله في سم الخيّاط. وأخذ رطبة من ذلك الرطب فوضع فيها ذلك السلك وأخرجه منها حتى تكللت بالسم، ووضعها مع ذلك الرطب وقال لخادمه: احمله إلى موسى بن جعفر، وقل له:
إن أمير المؤمنين أكل من ذلك الرطب، وهو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره، فإني اخترتها لك بيدي، ولا تتركه يبقي منها شيئاً ولا يطعم منها أحداً. فحمل الخادم الرطب وجاء به إلى الإمام، وأبلغه برسالة هارون. فأمره«ع» أن يأتيه بخلال، فجاء به إليه، وقام بإزائه فأخذ الإمام يأكل من الرطب، وكانت لهارون كلبة عزيزة عنده، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها الذهبية حتى حاذت الإمام«ع» فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث إن ضربت بنفسها الأرض وماتت للحال، وأكمل الإمام في أكل باقي الرطب. والخادم ينظر إليه مشدوهاً، حمل الإناء إلى هارون فلما رآه بادره قائلاً: قد أكل الرطب عن آخره؟ - نعم يا أمير المؤمنين.
- كيف رأيته؟
- ما أنكرت منه شيئاً، ثم قصّ عليه حديث الكلبة وطريقة موتها فقام هارون بنفسه ليشرف عليها، لأنها عزيزة على قلبه كثيراً، فرآها اهترأت أمعاؤها وتقطعت من السم فوقف مذهولاً وقد سرت الرعدة بأوصاله والشرر ينزف من عينيه وقال:
«ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمنا جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا ما في موسى حيلة۰
لقد احتار هارون في أمره فكل وسيلة سلكها للقضاء على الإمام«ع» تبوء بالفشل، فاستدعى وزيره يحيى بن خالد بعد أن انتشرت معاجز الإمام ومناقبه وتحدث الناس عن مناقبه وكراماته، فقال له:
«يا أبا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب؟ ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمه».
فأشار عليه يحيى بالصواب وأرشده إلى الخير فقال له:
«الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنّ عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعته».
فاستجاب هارون لنصيحة وزيره وقال له: انطلق إليه وانزع عنه الحديد وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك: إنه قد سبق مني فيك يمين إني لا أخليك حتى تقرّ لي بالإساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في إقرارك عار ولا في مسألتك إيّاي من منقصة، وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني».
أراد هارون أن يأخذ من الإمام اعترافاً بالذنب والإساءة ليصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عنه، فيكون قد اتخذ بذلك وسيلة إلى التشهير بالإمام من جهة، ومن جهة ثانية يكون له مبرراً في الوقت نفسه على سجنه له. لم يخف على الإمام«ع» ذلك، فلما مثل يحيى وأخبره بمقالة هارون انبرى إليه الإمام«ع» وقال له:
«سأخبرك بما سيجري عليك وعلى أسرتك من زوال النعمة على يد هارون، وشدة النقمة، فأحذرك من بطشه ومن الغدر بك فجأة» ثم ردّ على مقالة هارون فقال ليحيى:
«يا أبا علي، أبلغه عني، يقول لك موسى بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى - أي بموته - وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه؟».
خرج يحيى وهو لا يبصر طريقه من الحزن والجزع فأخذ يبكي لما رأى الإمام«ع» ابن بنت رسول الله بتلك الحالة، فأخبر هارون بمقالته، فقال هارون ساخراً:
«إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا!».
ولم يمض أسبوع حتى التحق الإمام «ع» بالرفيق الأعلى كما أخبر۰
الإمام موسى الكاظم «ع» ينعى نفسه
علم الإمام المعصوم موسى بن جعفر أن لقاءه بربّه أصبح قريباً، فنعى نفسه لبعض شيعته الخاصة، وعزّاهم بمصيبته بدل أن يعزّوه، فأوصاهم بالتمسك بالعروة الوثقى من آل محمد«ص» وذلك في جوابه عن المسائل التي بعثها إليه علي بن سويد«۱۴» حينما كان في السجن، فيها بعض المسائل يسأله عنها، فأجابه«ع» بهذا الجواب:
الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة، والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ وضال ومهتدي، وسميع وأصم، وبصير وأعمى فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه بمحمد«ص».
أما بعد؛ فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشدك، وبصّرك من أمر دينك بتفضيلك إياهم، وبردّك الأمور إليهم؛ كتبت إلى تسألني عن أمور كنت منها في تقية، ومن كتمانها في سعة، فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم، رأيت أن أفسّر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل حبها لهم، فاتق الله عزّ ذكره، وخصّ بذلك الأمر أهله، وأحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حارشاً عليهم«۱۵» بإفشاء ما استودعتك، وإظهار ما استكتمتك وإن تفعل إن شاء الله.
إن أول ما أنهى إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن ممّا قد قضى الله عزّ وجلّ وختم، فاستمسك بعروة الدين، آل محمد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي، والمسالمة لهم، والرضا بما قالوا: ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحب دينهم، فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أمانتهم، أو تدري ما خانوا أمانتهم؟
إئتمنوا على كتاب الله فحرّفوه، ودلّوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم «فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون» وسألت عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل الله فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إيّاه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلك كفراً؟
فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عزّ وجلّ كلامه، وهزئا برسوله«ص» وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما، وما زادا إلا شكاً، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام.
وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وسألت عن مبلغ علمنا، وهو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو افضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا محمد«ص». وسألت عن أمهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم، فأما أمهات أولادهم فهنّ عواهر إلى يوم القيامة نكاح بغير ولي، وطلاق في غير عدة. وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شكه، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فأنتم أحق به لأنّا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان.
وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وسألت عن الشهادة لهم، فأقم الشهادة لله عزّ وجلّ ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا وادع إلى شرائط الله عزّ ذكره من رجوت إجابته ولا تحصن بحصن رياء. ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطلاً وإن كنت تعرف منا خلافه، فإنّك لا تدري لما قلناه، وعلى أي وجه وضعناه آمن بما أخبرك، ولا تفش بما استكتمناك من خبرك، إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك، وعده في مرضه، ليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذى، ولا الخيانة ولا الكبر والخنا ولا الفحش ولا الأمر به، فإذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء وانظر ما فعل الله بالمجرمين، فقد فسرت لك جملاً مجملاً، وصلى الله على محمد وآله الأخيار...».


مع المسيب بن زهرة


كان المسيب بن زهرة موكلاً بحراسة الإمام«ع» حيث نقل من حبس السندي إلى داره على ما يستفاد من بعض المصادر، وكان الرجل من دعاة الدولة العباسية الأشداء، فقد ولي شرطة بغداد أيام المنصور والمهدي والرشيد، كما ولي خراسان أيام المهدي وكان على جانب من الغلاظة والشدة، فكان أبو جعفر المنصور إذا أراد بأحد خيراً أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد برجل شراً أمر بتسليمه إلى المسيّب ولما سجن الإمام عنده أو وكّل بحسبه أثّر عليه الإمام وسيطر على مشاعره، فاهتدى إلى طريق الحق والصواب، وأصبح من الشيعة المخلصين ومن حملة أسرار الأئمة «ع» وقد استدعاه الإمام قبل وفاته بثلاثة أيام فلما مثل عنده قال له: يا مسيّب.
- لبّيك يا مولاي.
- إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة، مدينة جدّي رسول الله«ص» لأعهد إلى ابني علي ما عهده إلى آبائي، وأجعله وصيّي وخليفتي، وآمره بأمري.
- يا مولاي، كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرس معي على الأبواب؟
- يا مسيب ضعف يقينك في الله عزّ وجلّ وفينا؟
- لا، يا سيدي ادع الله أن يثبتني.
- اللهم، ثبّته، ثم قال: أدعو الله عزّ وجلّ باسمه العظيم الذي دعاه به آصف حين جاء بسرير بلقيس فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه حتى يجمع بيني وبين علي ابني بالمدينة.
قال المسيّب: فسمعته يدعو، ففقدته عن مصلاّه فلم أزل قائماً على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجليه، فوقعت على وجهي ساجداً شاكراً لله على ما أنعم به علي من معرفته والتفت الإمام «عليه السلام» له فقال: «يا مسيّب، ارفع رأسك، واعلم أني راحل إلى الله عزّ وجلّ في ثالث هذا اليوم».
قال المسيّب: فبكيت، فلما رآني الإمام «عليه السلام» وأنا باكٍ حزين قال لي:
«لا تبكِ يا مسيّب فإن علياً ابني هو إمامك، ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فإنك لن تضلّ ما لزمته» قال المسيّب: الحمد لله على ذلك.


إلى جنّة المأوى


في اليوم الثالث سرى السم في جميع أجزاء جسم الإمام الطّاهر«ع» فأخذ يعاني اشد الآلام وأقسى الأوجاع، وقد علم «ع» أن لقاءه بربه أصبح قريباً فاستدعى السندي وطلب إليه أن يحضر مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد بن مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى«ع» وقال:
«إنا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صيرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني».
أحضر له السندي مولاه الذي طلبه، ولما ثقل حال الإمام «عليه السلام» مع وأشرف على النهاية المحتومة وأخذ يعاني زفرات الموت، استدعى المسيّب بن زهرة وقال له: «إني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة ماء وشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فأخبر الطاغية هارون بوفاتي» قال المسيّب:
فلم أزل أراقب وعده حتى دعا«ع» بشربة فشربها ثم استدعاني فقال لي:
«يا مسيّب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه تولى غسلي ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي«ع» فإن الله عزّ وجلّ جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا».
قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه وكان عهدي بسيدي الرضا«ع» وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أليس قد نهيتك، ثم إن ذلك الشخص قد غاب عنّي، فجئت إلى الإمام«ع» فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته۰
لقد لحق الإمام«ع» بالرفيق الأعلى إلى جنة المأوى إلى جوار أبيه جعفر الصادق«ع» وأجداده المعصومين«ع» وجدّه الرسول الأمين«ص» فاضت نفسه الزكية إلى بارئها فأظلمت الدنيا لفقده وأشرقت الآخرة بقدومه. وقد خسر المسلمون ألمع شخصية كانت تدافع عنهم وتطالب بحقوقهم، كما خسر الإسلام علماً عظيماً يذبّ عن كيان الإسلام، ويدافع عن كلمة التوحيد، ويناظر ويحاجج كل من أراد الاعتداء أو التحريف في شريعة الله الخالدة.
ما رأيت ساجدا قط.. ما زالت جبهته على الثرى.. وجثمانه محمول!


في الوقت الذي نعزي فيه صاحب العصر والزمان«عج» والامة الاسلامية جمعاء بذكرى استشهاد راهب بني هاشم الامام موسى بن جعفر«عليه السلام».. نقوله لشعوب العالم كافة اقرأوا سيرة هذا الرجل بتمعن ستعرفون بعد ذلك رسالة الأسلام الحق.. الاسلام الذي اراده الله سبحانه وتعالى ان يكون خاتمة تعاليمه واراد ان يكون رسوله«ص» خاتم الانبياء والرسل«عليهم السلام».. فالامام الكاظم«عليه السلام» هو سليل النبوة ووارث علوم اهل البيت«عليهم السلام» وحينما وجد الامام انحرافا في مسار الاسلام لم يتخل عن مسؤوليته في تصحيح هذا المسار حتى لو كان ثمنه حياته الشريفة.
وكان الامام موسى بن جعفر زاهدا في دنياه. ومعرضا عن مباهجها وزينتها، اذ غادر وبمحض ارادته جميع امتعة الدنيا وزخارفها، ولا عجب فجده الامام علي«عليه السلام» الذي طلق الدنيا بالثلاث وقال لها: «غري غيري».. ولشدة عشقه للزهد يذكر بأستمرار لأصحابه سيرة الصحابي الثائر أبي ذر الغفاري«رض» الذي عشق الخالق وطلق الدنيا ولم يحفل بأي شيء من زينتها.. فكان«عليه السلام» يردد بأستمرار: «رحم الله أباذر، فلقد كان يقول: جزى الله الدنيا عني مذمة بعد رغيفين من الشعير، اتغذى بأحدهما، واتعشى بالأخر، وبعد شملتي الصوف ائتزر بأحدهما والتحف بالأخرى».
اما حُلم الامام موسى بن جعفر فكان مدرسة لابد للأجيال ان تنهل منها الدروس والعبر، فالامام«ع» يجسد حرفيا تعاليم الأسلام الحقيقية التي شوهها للاسف متطرفوا وجهلة الاسلام.. فكان«عليه السلام» يردد الآية الكريمة: «أدفع بالتي هي أحسن.. فاذا الذي بينك وبينه عداوة.. كأنه ولي حميم» فكان يجزل العطاء المادي والمعنوي على الاشخاص الذين يحاولون النيل منه حتى يعترفوا فيما بعد ان الله يعلم حيث يجعل رسالته فيمن يشاء.. ما احوجنا اليوم لهذه المبادئ السامية والاخلاق القرآنية بعد ان صار اسلوب العنف والتكفير والتهجير، ومصادرة رأي الآخر هو الصفة السائدة في اسلام اليوم!
كان الامام الكاظم«عليه السلام» يوصي ابناءه بالتحلي بهذه الصفة الكريمة التي كان يؤكد عليها بأستمرار: «يابني، أوصيكم بوصية من حفضها انتفع بها، اذا أتاكم أت، فأسمع احدكم في الأذن مكروها، ثم تحول الى الاذن اليسرى فأعتذر لكم وقال: اني لم أقل شيئا، فأقبلوا عذره»! واعتقد جازما ان هذا القول هو رسالة لكل مفكري ومثقفي العالم الذين يتشدقون ببعض الافكار الغربية التي تحمل شعار «حوار الحضارات» و«حوار الاديان».. الخ.. ان يسلكوا سلوك ائمة اهل البيت«عليهم السلام» فهو الحل الوحيد والناجع لسلام العالم.. كل العالم بمختلف اديانه وطوائفه وقومياته.. فالاسلام جاء رحمة للعالمين واخيرا ماذا أقول بحق امام جعل الله الحاجات تقضى ببابه! حبا وكرما.
ماذا أقول بحقك سيدي يابن البتول.. والله ما رأيت ساجدا قط.. ما زالت جبهته على الثرى.. وجثمانه محمول! وما رأيت سجينا قط.. قيده يُرثيه.. وسبحانه مقتول
الا راهب بني هاشم.. ابن الرسالة وابن والرسول
ما قاله الشعراء في مدح الإمام الكاظم«ع»


قال الشيخ موسى محيي الدين في الإمام موسى كاظم الغيظ«ع»:
يا كاظم الغيظ يا جد الجواد ومن عمّت جميع بني الدنيا مكارمه
ومن غدا شرع خير المرسلين به سامي الذرى وبه شيدت دعائمه
الحق لولاك ما بانَت حقائقه والشرع لولاك ما قامت قوائمه
وفيك ينكشف الكرب العظيم إذا جاشت علينا بلا جرم قشاعمه
إمام حق أبان الحق وانتشرت أفعاله الغرمذ نيطت تمائمه
فعالم الدين خير الناس عالمه وكاظم الغيظ خير الناس كاظمه
مولى غدا من رسول الله عنصره أكرم به عنصراً طابت جراثمه
به وآبائه زان الوجود وفي أبنائه الغرقد شيدت معالمه
من أم مغناك يا أزكى الورى نسباً للازم كيف لا تقضى لوازمه
فيا خليلي والخل الخليل إذا حبا الخليل بأسنى ما يلائمه
لا تحسبا كل شوق يدعى عبثاً فالشوق إن هاج لا تخفى معالمه
ولا تلوما إذا ما رحت ذا كلف والدمع من مقلتي فاضت سواجمه
أنا المشوق المعنى بازدياد حمى موسى بن جعفر صب القلب هائمه
فعلِّلا قلبي العاني الضعيف به فإن في ذكره تقوى عزائمه


« اعطف على الكرخ من بغداد»


السيد صالح القزويني


اعطف على الكرخ من بغداد وابكِ بها كنزاً لعلم رسول الله مخزونا
موسى بن جعفر سر الله والعلم الباب الحوائج عند الله والسبب الموصول بالله غوث المستغيثينا
الكاظم الغيظ عمن كان مقترفاً ذنباً ومن عمّ بالحسنى المسيئينا
يابن النبيين كم أظهرت معجزة في السجن أزعجت في الرجس هارونا
وكم بك الله عافى مبتلى ولكمشافى مريضاً وأعنى فيك مسكينا
لم يُلهك السجن عن هدي وعن نسكإذ لا تزال بذكر الله مفتونا
وكم أسروا بزاد أطعموك بهسمّاً فأخبرتهم عمّا يسرونا
وللطبيب بسطت الكف تخبرهلما تمكن منها السمّ تمكينا
بكت على نعشك الأعداء قاطبةما حال نعش له الأعداء باكونا
راموا البراءة عند الناس من دمهوالله يشهد ما كانوا بريئينا
كم جرّعتك بنو العباس من غصص تذيب أحشاءنا ذكراً وتُشجينا
قاسيت ما لم تقاس الأنبياء وقد لاقيت أضعاف ما كانوا يلاقونا
أبكيت جديك والزهراء أمّك والأطهار آباؤك الغر الميامينا
 
 
   


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع