شارك هذا الموضوع

التركيب والتفكيك في الرؤى المعرفية

في هذا التصوير حاولنا أن نقدم رؤية عن المعرفة بوصفها أمراً حسيّاً يتوفر على أجزاء محددة من جهة، ويتوفر على ارتباطات خاصة بين هذه الأجزاء من جهة أخرى، والمهمة التي تواجه صاحب العمل المعرفي هو استحصال هذه الأجزاء المعرفية أولاً، والتركيب بينها ثانياً، وهاتان المهمّتان نحسب أنهما يمثلان روح العملية المعرفية التي تتخذ مسارات مشابهة للغاية لأية عملية تركيبية حسية تعتمد عدّة من الأجزاء تصيغ تناسقاتها وانتظامها، ومن هنا نظرنا للمهمة المعرفية أولاً على أنها مهمة تفتقد الأجزاء اللازمة في عملية التركيب وهو ما عبرنا عنه بضعف المحتوى، وهي تفتقد المنهج في إيجاد التناسق والتناغم بين الأجزاء وهو ما عبرنا عنه بافتقاد المنهج كما يلاحظ القاريء الكريم في القطعة الأولى إلى اليسار من الصورة والتي عنوناها بعنوان "الصورة المفككة"، وإذا ما حاول الإنسان أن يزاول المهمة المعرفية فإن أول ما يصطدم به هو محاولة التعرف على الأجزاء اللازمة للقيام بهذه المهمة، وهي الخطوة الأولى في العمل المعرفي، وإذا ما استجمع الأجزاء فإنه قد يقع في إشكالية عدم القدرة على التركيب بينها بالشكل الصحيح والمطلوب، أو أنه قد يتوفر على المنهجية اللازمة في التركيب بين الأجزاء إلاّ أنه يفتقد الأجزاء نفسها، وهاتان الحالتان تمثلان قصوراً في إتمام العملية المعرفية، غاية الأمر أن القصور الأول يرتبط بالمنهج، بينما يرتبط القصور الثاني بالمحتوى، وهو ما أردنا الإشارة إليه من خلال الصورتين المعنونتين بـ "الصورة الخاطئة" و "الصورة الناقصة" .


وإذا ما استجمع الإنسان جميع أجزاء الصورة وتوفر على المنهج اللازم للتركيب والتنسيق بين الأجزاء فحينئذ أضحى الباب أمامه مفتوحاً لإنتاج معرفة صحيحة ومتكاملة، أو بتعبير آخر دقيقة وواقعية، فالدقة والواقعية هما ما يعطيان للمعرفة قيمتها ورصيدها العلمي والمعرفي .


وإذا ما أردنا أن ننظر إلى المعرفة بوصفها تمثيلاً للإنسان يكون من المناسب أن نوازي بينها وبين شخصية الإنسان، فالشخصية تغدو مترابطة أو مفككة بمقدار ما تتفكك أو تترابط معارفها، وهو ما عملنا على إبرازه في هذا التصوير من خلال إجراء مهام التركيب والتفكيك المعرفيين على الإنسان وتطبيقهما على شخصيته ووجوده، وفي ذلك إشارة مهمة أردنا من خلالها تأصيل مبدأ الترابط بين الشخصية الإنسانية ومعارفها، فالمعرفة في نهاية الأمر هي انعكاس داخلي للحقيقة الإنسانية، وهذا ما يمكن استيضاحه أكثر من خلال التعرف على قاعدة فلسفية مهمة نقحها بعض فلاسفة الإسلام وتذهب للقول بـ "اتحاد العاقل بالمعقول"، وكان أول من ألمح إلى هذه القاعدة هو الحكيم اليوناني المسمى "فرفريوس"، وخلاصة القاعدة هي المطابقة بين العاقل وما يعقله من المعقولات .


وفي نهاية هذا الإيضاح لهذا التصوير يهمنا أن نبرز الإشارة إلى تنوع المعارف التي تساهم في تشكيل الصورة المعرفية عند الإنسان، فهناك من المعارف ما هو حسي، بمعنى تعلقه بالمحسوسات، وهناك من المعارف ما هو مثالي بمعنى تعلقه بالمثاليّات، وهناك من المعارف ما هو عقلي بمعنى تعلقه بالعقليات، وإلاّ فالمعرفة كيف ما فرضت هي في حقيقة الأمر مجرّدة غاية الأمر أن متعلقها يختلف فتختلف هي تبعاً لاختلاف متعلقها وهو ما سنعني ببيانه في بعض التصاوير القادمة انشاء الله .


ولا شك أن الصورة الكاملة للمعرفة لا يمكن أن تتشكل إلاّ من خلال استجماع كل هذه الأنواع من المعارف كما أن الوجود الحقيقي للإنسان لا يمكن أن يتشكل إلاّ من خلال استجماع أبعاده المختلفة الحسية والمثالية والعقلية، وهذا ما يوجب على المنظرين الإسلاميين أن يراعوا الرؤية المعرفية المتكاملة في كل ما يرغبون الإسهام في صياغته من معارف إسلامية وإنسانية.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع