شارك هذا الموضوع

شعائر الحج وحكمة التشريع

بعدما يكون المسلم قد أعدّ العدة للسفر إلى مكة المكرّمة لأداء فريضة الحج، الواجبة على كل مستطيع، بتجهيز نفسه وإخلاص نيته وتطهير ماله واختيار الرفيق الصالح للسفر، لا بد له أن يضع نفسه في أجواء شعائر الحج العظيمة، محاولاً الاستفادة منها إلى أقصى درجة ممكنة، بسبر أعماقها واستلهام دروسها، ليكون مهيّاً لتلقي الفيوضات الإلهية ويشهد المنافع التي أشارت إليها الآية الكريمة:


{وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله}[الحج/17-28].


وحيث أن خفاء الحكمة، عند البعض، في تشريع مناسك وشعائر الحج قد يسبب التشكيك في الحكمة الإلهية، وبالتالي التسامح في تأدية الوظيفة الشرعية من قبل الكثيرين الذين لم يوفّقوا لتحصيل العقيدة الراسخة والإيمان الجازم بعدالة الله وحكمه، فقد مست الحاجة أن يُكشف النقاب عن وجه الحكمة والسر في تشريع الأحكام قدر الإمكان ولو على وجه الإيجاز.


الحكمة في الإحرام
إن الإحرام من الميقات هو أول واجب يقوم به الحاج أو المعتمر على درب التعبّد لله سبحانه وتعالى بهذه الفريضة المقدسة.


والحكمة التي يمكن أن تكون المصدر لتشريع وجوب الإحرام من الميقات المحدد للحاج أو المعتمر على ضوء بعض الروايات والتوجيهات الواردة عن أهل البيت(ع) هي التعبّد لله سبحانه ولفت نظر الزائر لبيت الله الحرام أنه عندما يصل إلى الميقات يُطلب منه أن يُحضر في ذهنه صورة الإقدام على دخول حرم الله وأمنه الذي جعل الله له أحكامه الخاصة وقدسيته المميزة ليستشعر بذلك عظمة الله تعالى وجلاله ويصحب معه هذه الحالة عند قيامه بأي منسك من مناسك الحج باعتبار أن الإحرام هو بداية أعمال هذه الفريضة والمباركة نظير تكبيرة الإحرام في الصلاة..


وحتى يتعمق هذا الشعور في نفس الوافد إلى بيت الله سبحانه طلب منه أن يغيّر وضعه الخارجي من الحالة التي هي من شؤون الدنيا وأهلها مثل ارتداء الملابس المخيطة وتغطية الرأس بالنسبة إلى الرجل مع ارتداء ثوبين غير مخيطين للإحرام بالنسبة له أيضاً، وذلك من اجل أن يتذكر يوم وفاته حيث يُجرد من ملابسه الحياتية العادية ويلف بقطع الكفن الثلاث المعهودة غير المخيطة وذلك يزيده خضوعاً لله وخشوعاً بين يديه وزهداً في زخارف هذه الحياة الزائلة وزينتها الفانية ليبدّل ذلك بالرغبة فيما ينفعه ويرفعه بكلتا الدارين.


ويأتي النطق بصيغة التلبية ليكون تعبيراً عن الاستعداد النفسي لتلبية كل نداء إلهي يوجه إليه ويتضمن طلب فعل أو ترك عمل وتتمثل هذه التلبية والإجابة العملية بامتثاله التكاليف الشرعية الموجهة إليه سواءً في الحج أو خارجه.


الحكمة في الطواف
إن الدروس التي يمكن أن نستوحيها من تشريع الطوق وحكمته كثيرة، وقد لا يتسع المجال لذكرها هنا، ولكن سيقتصر العرض على بعض العناوين وأهمها. وأول تلك العناوين هو إظهار رعاية التقيد والعبادة لله تعالى لتأدية هذا الواجب المقدس بكيفيته من حيث اشتراط الابتداء به من الحجر الأسود وختامه به مع جعل الكعبة على جهة اليسار أيضاً وتحديد العدد بسبعة أشواط فإذا التزم المكلف بإتيان هذا الواجب بهذه الكيفية وهذه الكمية يكون قد قام بواجب العبودية والتسليم للإدارة الإلهية مع الاقتناع التام بالحكمة السماوية وان كل ما يأمر به الله سبحانه لا يكون إلا عن حكمة ومصلحة تعود إلى المكلف.


وتشريع الطواف حكمته التوصل إلى صفة وملكة الاستمرار على التحرّك والطواف العام حول مركز إرادة الله تعالى ومطاف شريعته كما كان يطوف حول كعبته بانضباط وتقيّد بقيود الطواف وشروط صحته.


ومن وجهة نظر فلسفية نلاحظ أن حركة طواف المسلم الاختيارية حول بيت الله منسجمة تمام الإنسجام مع الطواف التكويني الحاصل في داخل كل كائن مهما كان حجمه، ويُعرف ذلك على ضوء العلم الذي كشف هذه الحقيقة التكوينية وهي أن كل جزء من أجزاء الكون، من أكبرها إلى أصغرها، مؤلف من ذرات تتشكل من نواة يطوف حولها عدة عناصر أصغر وهي الالكترونات تطوف حولها طوافاً تكوينيناً، وكذلك الحال بالنسبة للكواكب والأقمار والنجوم التي تطوف بحركة كونية أبدعها رب السموات والأرض.


لذلك على المسلم، وبعد أن ينتهي من الطواف الخاص، أن يبتدئ رحلة الطواف العام المعنوي بقلبه حول مركز الشريعة شريعة، ربه، فلا يتجاوز حدودها كما كان لا يتجاوز حدود الطواف الخاص.


أما تقييد الطواف بالحجر الأسود فقد أشارت بعض أحاديث أهل البيت(ع) أن الحكمة في ذلك هي أن الله سبحانه أراد جعل الحجر الأسود رمزاً لما تتحقق به المصافحة في مقام إعطاء العهد والميثاق لله سبحانه وتعالى بالالتزام بخط العبودية والوفاء بميثاق الفطرة وعهد الاعتراف لله بالوحدانية وحق العبادة والإطاعة ولنبيه محمد(ص) بالرسالة عندما يُقبّل المسلم هذا الحجر أو يصافحه ويستلمه.


أما تشريع صلاة الطواف وربطها بمقام نبي الله إيراهيم(ع)، فلا يبعد أن يكون وجه الحكمة فيها هو لفت نظر الأجيال الصاعدة إلى مقام هذا النبي العظيم(ع) والدور الذي نهض به بالنسبة إلى فريضة الحج بالتعاون مع ولده إسماعيل(ع)، فهو المجدد لبناء الكعبة المشرفة والرافع لقواعدها بعد أن كانت مطمورة بسبب طوفان النبي نوح(ع) وهبوب الرياح العاتية، وهو نبيٌّ صاحب شخصية رسالية مثالية بلغت القمة في الإخلاص والتوحيد العبادي بعد أن بلغت ذلك في التوحيد العقيدي، وتجلى ذلك بوضوح بعد تعرضه لامتحانات عديدة صعبة فقابلها بقوة إيمان وصلابة موقف وغاية في التسلم والخضوع، حتى اتخذه رب العالمين خليلاً.


الذبح والرمي والحلق
يعتبر أمر الله سبحانه لخليله إبراهيم(ع) بذبح ولده وقرة عينه إسماعيل(ع) أحد أصعب وأهم الامتحانات التي مرّ بها هذا النبي العظيم، وتعتبر استجابة الخليل(ع) وولده (ع) لهذه الامتحان الاستثنائي حدث فريد خلّده الله سبحانه وتعالى بآيات من سورة الصافات المباركة حتمت بقوله تعالى:{سلامٌ على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين}[الصافات/109-111].


وهذا يدل على أن حرارة الإيمان في قلبه(ع) غلبت على حرارة العاطفة الأبوية، وهذا هو المتوقع من المؤمن الرسالي المثالي الذي باع نفسه وماله وأولاده وكل ما يتعلق به في هذه الحياة لله تعالى ومقابل ذلك له جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.


وقد أراد الله سبحانه أن يقدم من هذين النبيين العظيمين(ع) قدوة مثلى وأسوة فضلى للأجيال المؤمنة عبر التاريخ لتقتدي بهما في مجال الجهاد والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر.


وقد شاء ـ تعالى ـ أن يخلد ذكرهما الحافل بالتضحية والفداء فجعل تقديم الهدي من الشعائر الواجبة في حج التمتع على من استطاع إليه سبيلا.


وهناك حكمة أخرى وراء تشريع وجوب الذبح وتقديم الهدي، وهي وجوب إطعام الفقراء من لحم الذبيحة فيكون ذلك وسيلة من وسائل تفقدهم بالبر والصلة ومد يد الإحسان إليهم.


رمي الجمرات
ثم يأتي رمي حجرة العقبة التي توسع الحديث حول سبب تشريعه وجعله شعاراً واجباً في الحج. ففي حديث أن الرمي في بدايته، حصل من إسماعيل عندما تصدى الشيطان له ليمنعه عن امتثال أمر ربه بتقديم نفسه قرباناً لله تعالى. وفي حديث آخر أن الحادثة حصلت مع نبي الله إبراهيم(ع) من اجل أن يصده الشيطان عن تنفيذ الأمر الإلهي بذبح ولده قربة وقرباناً لله. وفي حديث ثالث أن الأمر حصل مع النبي إبراهيم وولده إسماعيل وزوجته هاجر(ع) من أجل صدهم عن طاعة رب العالمين. ولعل الحديث الثالث أقرب لأن عملية الذبح مرتبطة بالثلاثة: بالولد مباشرة وبالوالدين بطريق غير مباشر.


وقد شاء الله تعالى أن يجعل من كل واحد من هؤلاء الثلاثة قدوة مثلى لكل المؤمنين في التاريخ في كل عمل مطلوب لله سبحانه ويكون القيام به صعباً وشاقاً.


وهكذا يمتد الوحي، والذي انطلق من مناسبة تاريخية معينة ، ليغطي ساحة التاريخ والذات لتُرمى النفس بالإمارة بالسوء فلا تُطاع بمعصية الله كما يُرمى الشيطان بحجارة التقوى، ولتُرمى الشياطين على اختلاف أنواعها واحجامها بالموقف الحر الأبي الرافض لكل أنواع المساومة والمهادنة على حساب المبدأ الأصيل والوطن العزيز والكرامة والعزة.


الحلق أو التقصير
وأما الحلق , التقصير اللذان يجب أحدهما على الحاج بعد قيامه بواجبي الرمي والذبح فإنه يكون رمزاً لزوال درن الذنوب ودنس الخطايا من الروح والنفس كما زال الشعر ـ كله أو بعضه ـ عن رأس المؤمن، كما يكون رمزاً للنظافة المعنوية والزينة الروحية التي يتُوقع ممن أدى فريضة الحج أن يتجمّل بها ليكون وضعه في يومه وبعد تأدية فريضة الحج المقدسة مغايراً لما كان عليه قبلها باعتبار أن الحج لم يوجبه الله تعالى لشكله وصورته فحسب وإنما أوجبه ليصل الإنسان المسلم إلى "التقوى".


الوقوف في عرفات
يعد الوقوف في عرفات أروع وأبرز منسك من مناسك هذه الفريضة الميمونة حتى انه ورد في بعض النصوص ما حاصله: (الحج عرفة)، وذلك لما لهذه الوقفة من معان وآثار عظيمة منها:


ـ وقفة مع النفس: والحلقة الأولى من حلقات عرفات بمعناها العرفاني الإيماني هي عرفات النفس التي يجب على المسلم أن يقف فيها ابتداء من أول زوال وظهر يوم التكليف إلى وقت غروب شمسه. والوظيفة المطلوبة هي التفقه في الدين (أصوله وفروعه) مضافاً إليه التجمل بالتقوى ومكارم الأخلاق.


ـ ومع الأسرة: وبعد الوقوف على صعيد النفس يجب على المسلم أن يقف في عرفات الأسرة وذلك بمعرفة ما يجب عليه نحو كل فرد من أفراد أسرته فيعرف حق شريكه وأولاده فيؤدي لكل ذي حق حقه.


ـ ... والمجتمع: وبعد خروج المكلف من إطار عرفات الأسرة الوسطى يدخل في عرفات الأوسع ليعرف ما يطلب منه من حق واجب أو مستحب نحو جاره وأخيه في الإسلام ثم نحو أخيه في الإنسانية، ثم سائر المخلوقات التي تشترك معه بالإذعان والمخلوقية لرب العالمين.


وبعرفات المجتمع تحصل للمسلم منافع جمة منها الإسلامية والأخلاقية، ومنها الاقتصادية بتعارف التجار وأرباب الصناعات...، ومنها السياسية بتلاقي الشعوب ورموزها الروحية والسياسية على اختلافها، من اجل التشاور والتداول في أمور المسلمين بما يعود عليهم بالنفع والقوة والعزة.


وكذلك يتم التبادل الثقافي والفكري بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وألوانهم ليتذكروا ما يحملون من ثقافات وعلوم وآراء لتتفتح أمامهم آفاق الإسلام الواسعة، باطلاع المسلمين على بعضهم البعض، فتتحقق الفائدة المرجوة من اجتماعهم وهي فائدة الوحدة والاتحاد بين أبناء الأمة الإسلامية ونظمها لتعود أمة واحدة وتكون خير أمة أخرجت للناس.


الوقوف في المشعر الحرام
بغروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة الحرام ينتهي الوقوف في عرفات ليبدأ الزحف المقدس باتجاه المشعر الحرام.


والحكمة التي يمكن استلهامها من هذا الشعار المقدس هي أن الحجاج الكرام بعد أن توقفوا للتعارف ببركة الوقوف السابق على صعيد عرفات وأصبحوا يمثلون جبهة واحدة وصفاً واحداً قوياً قادراً على التصدي للعدو، من أجل إزالة عدوانه أو منعه من القيام به، يُطلب منهم أن يتحركوا نحوه ويستعدوا لخوض معركة الشرف والجهاد المقدس ضده، وحيث أن تحصيل الأسلحة المناسبة لذلك وجمعها من مصادرها أوضح مصاديق أخذ الأهبة والاستعداد، فيأتي جمع الحصى من المشعر الحرام ليلة المبيت فيه ليكون رمزاً وتمريناً على جمع السلاح المادي المعهود وإعداده للوقت المناسب عملاً بقوله تعالى:{واعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع