شارك هذا الموضوع

من الحج الابراهيمي إلى الحج الجاهلي - أنماط ومناسك

الحج الابراهيمي ودخول الشرك إلى الجزيرة:
إن الحج الإبراهيمي الذي خطت معالمه على يدي النبي ابراهيم(ع) هو بلا ريب حجّ الإسلام، وتتكشف أهميته ومكانته كونه جعل من الكعبة موقعاً خالصاً لعبادة الله، وأسس لنوع جديد من التعامل بين الناس تمثل في إلغاء الفوارق والتمايزات ومحاربة الشرك بكافة أشكاله، ولكن هذا الحج لم يبقَ على نقائه وصفائه بسبب ما أدخل عليه من مظاهر إشراكية انحرفت به عن مساره الحقيقي.


أما في ما يتعلق بدخول الشرك وانتشاره في الجزيرة العربية، لم يتّفق المؤرخون السابقون على رأي واحد، فبعضهم مثل هشام الكلبي رأى في كتابه (الأصنام): "أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثير حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسّحوا في البلاد لالتماس المعاش.


وكان الذي دفع بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعنُ من مكة ظاعنٌ إلا احتمل معه حَجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابةً بمكة، وقد أدى هذا العمل على المدى الطويل إلى نشوء صناعة الأصنام وعبادتها وبالتالي ساد الشرك في مختلف أنحاء الجزيرة، وكانوا في ديار الغربة يدورون حول هذه الأصنام، ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة، إلا أن هشام يضيف قائلاً: "وهم بعدُ يعظمون الكعبة ومكّة، ويحجّون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام".


وفي الأسباب الكامنة وراء الميل نحو الشرك وتغلّبه على دين إبراهيم، رأى هشام أنها تتمثل في توغّلهم واهتمامهم الشديد بالأصنام، موضّحاً أنه رغم كل ذلك كانت ثمة بقايا مناسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قام أهل الجاهلية بأدائها بعد أن مزجوها بتقاليد الشرك، فبدأ الحجّ الجاهلي بمعناه الدقيق من ذلك الحين: "وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يتنسّكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن، والإهلال بالحجّ والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه".


أقسام الحجاج في الجاهلية:
كان الحجاج في الجاهلية على أقسام ثلاثة وهم الحمس (الأحماس)،والطلس (الأطلاس)، والحلّة.


الحمس: وهم قريش وخزاعة وكل من ولدت قريش من العرب، وكل من نزل مكة من قبائل العرب، وكان هؤلاء يطوفون بثيابهم، كذلك كان من الواجب على كل مكي أراد الطواف للمرة الأولى أن يطوف بلباس أهل الحرم، أي الحمس، وإن لم يجد ذلك طاف عرياناً.


وما أوجده الحمس في الحج هو ترك الوقوف على عرفة والإفاضة منها إلى المزدلفة، فهم في الوقت الذي يقّرون فيه بهذه المناسك، باعتبار أنهم أهل الحرم ولا ينبغي لهم الخروج من الحرم وتعظيم غيره، وعندما يقف الحجاج في عرفة، يقفون هم عند أول الحرم ثم يذهبون ليلاً إلى المزدلفة، وبقي الأمر كذلك حتى ظهور الإسلام، الذي ألغى هذا التمييز بقوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}[البقرة:198].


وكان "الطلس" وهم سائر أهل اليمن وأهل حضرموت... لا يتعرّون حول الكعبة ولا يستعيرون ثياباً، ويدخلون البيوت من أبوابها ولا يئدون بناتهم.


أما "الحلة" والمفروض أنهم بقية القبائل، فكانوا يتعرون حول الكعبة، وبعد الفراغ من تأدية المناسك، كانوا يتصدقون بنعلهم وثيابهم عند دخولهم الكعبة، ويستأجرون للطواف الثياب من أهل الحمس، ويقصدون من نزع الثياب طرح ذنوبهم معها حيث لا يطوفون في الثياب التي قارفوا فيها الذنوب، ولا يعبدون الله في ثياب أذنبوا بها، وذكر أنّ "الحلّة" إذا أتموا طوافهم تركوا ملابسهم عند الباب ولبسوا ملابس جديدة.


وقد منع الإسلام طواف العري في أي وقت، وحتّم على جميع قريش وغيرهم لبس الإحرام. والإحرام قديم عرف عند غير العرب أيضاً.


ويظهر أن أهل مكة وقريشاً كانوا يلبسون الإحرام أو يعيرونه لغيرهم من العرب إنّ كانوا من حلفائهم.


ومن المحتمل أن "المعينيين" و"السبئيين" و"القتبانيين" و"الحضرميين" كانوا يطوفون حول معابدهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأنّ الطواف حول بيوت الأصنام من السنن الشائعة بين العرب وعند بني "أرم" و"النبط". وكان الطواف حول البيت الحرام بمكة سبعة أشواط.


ولذلك يجب البحث عن جذور هذا الطواف في مصالح الحمس الذين سعوا عبر إيجار الثياب ولو لمرة واحدة، أن يضمنوا لأنفسهم مصدراً مالياً، وكان أهل الحلة في بعض الأحيان لا يستجيبون لهذا الأمر وإن كانوا فقراء معدمين من جهة،وكانوا يرفضون الخضوع لامتيازات قريش وقراراتها الاستعلائية من جهة ثانية، ولما كان الغرض من الحج ترسيخ التقاليد القبلية والجاهلية، فقد كانوا مستعدين لأن تطوف نساؤهم حتى عاريات، هذا الطواف طواف الحج والعمرة الذي لم يكن حسب تقاليد المشركين تعبدياً دائماً، إنما كان أحياناً للتعبير عن الغضب والشر وإشهاد البيت على ظلم الأعداء.


مناسك الحج:
إن ما يتحصل من الأشعار والآثار الجاهلية الباقية، هو أن أداء المناسك كان يترافق مع التلبية بصوت عالٍ، وتجدر الاشارة إلى أنه لم يكن ثمة وجود للتلبية المختصة بحج ابراهيم(ع) والتي مفادها:"لبّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"... بل إنهم غيروا التلبية لتتوافق مع عقيدة الشرك لديهم، لتكون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك".


ويظهر من هذه التلبية الاعتقاد بالشريك، وقد كشف القرآن الكريم عن عقيدتهم المشركة في قوله تعالى{وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون}[يوسف:106]، وقد اعتبر ابن الكلبي أن هذه التلبية مختصة بنزار، بينما رأى ابن اسحق أنها مختصة بقريش، وقال الأزرقي إنها متعلقة بكل المشركين، ومما لا شك فيه أن التلبية التي يؤدها أهل الحرم يمكن أداؤها من قبل أهل الحل. وكان لعبّاد كل صنم تلبيات خاصة، ومن بين هذه الأصنام كان لكل من اللات والعزّى ومناة وهبل وذو خلصة وذو كفين وجهار ومرحب ونسر ويعوق وود ويغوث وغيرها من الأصنام تلبيات مختلفة مذكورة في المصادر التاريخية.


والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام، ولكنّه غيّر صيغها القديمة بما يتّفق مع عقيدة التوحيد، فصارت على هذا النحو:


"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك؛ إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك".


كما جعلها جزءاً من حجّ مكة بعد أن كانت تتم خارج مكة، إذ كانت كلّ قبيلة تقف عند صنمها وتصلّي عنده ثمّ تلبّي قبل أن تأتي إلى مكة، وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة فأبطل ذلك الإسلام.


ويمكن القول إن الحج الجاهلي كان مزيجاً من الشرك والتفاخر القبلي، والأغراض التجارية والأهداف السياسية والقومية، لذلك سعت كل قبيلة أثناء الطواف لاستعراض مظاهر هذا المزيج غير المتجانس من خلال رفع الأصوات، وقد عبر القرآن الكريم عن حركة المشركين هذه لدى الطواف بقوله تعالى{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}[الأنفال:35]


ومن مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة، وكان بهما صنمان هما لـ"أساف" و"نائلة" وطواف الحجاج بهما قدر طوافهم بالكعبة أي سبعة أشواط، وكانت قريش تقوم بذلك. أما غيرهم فلم يطوفوا بهما، وبين "الصفا" و "المروة" يكون المسعى. وكان "أساف" بالصفا و"نائلة" بالمروة، وكان أهل مكة يطوفون بـ "أساف" أولاً ويلمسونه كلّ شوط ثم ينتهون بـ "نائلة" ويلّبون لها.


وذكر أن قوماً من المسلمين قالوا: يا رسول الله ‍ لا نطوف بين "الصفا" و "المروة"، فإنه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية، ولما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فانزل الله في كتابه الكريم:{إن الصفا والمروة من شعائر الله}[البقرة:158].


ويتضح من الأخبار أن الذين كانوا يطوفون بالصنمين ويسعون بينهما هم قريش خاصة: لأنها كانت تعبد الصنمين، وليس كل من كان يحج من العرب، وقد استبدل الإسلام الطواف بالسعي بين الموضعين، وذكر أنّ السعي بين "الصفا " و"المروة" شعار قديم من عهد هاجر أمّ إسماعيل.


ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف بـ"عرفة" ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة ويسمى ذلك اليوم "يوم عرفة" ومن "عرفة" تكون الإفاضة إلى "المزدلفة"، ومن "المزدلفة" إلى "منى".


وكان الجاهليون من غير قريش يفيضون من "عرفة" عند غروب الشمس ومن"المزدلفة" عند شروقها، ولم يكن "الحمس" يحضرون "عرفة" وإنّما مكانوا يقفون "بالمزدلفة"، وقد بدّل الإسلام ذلك وأخضع الجميع للوقوف بـ"عرفة". قال تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}[البقرة:199]يعني من "عرفة"، و"عرفة" هذه موضع على مسافة غير بعيدة عن "مكة"، ولا بدّ أنه كان من المواضع التي قدّسها الجاهليون، وربما كان له إرتباط بصنم من الأصنام.


ويقف الحجاج المسلمون موقف "عرفة" من الظهر إلى وقت الغروب، وقد يكون وقوف الجاهليين في "عرفة" وقت الغروب له علاقة بعبادة الشمس، فإذا غربت الشمس أتّجه الناس إلى "المزدلفة" وهي على منتصف الطريق بين "عرفة" و"منى".


وفيها يبيت الحجاج ليلة العاشر من ذي الحجة، وقد وصفت في القرآن الكريم بالمشعر الحرام، وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى "منى". ومن المحتمل أن "المزدلفة" كانت من مواضع الجاهلية المقدّسة التي لها صلة بالأصنام.


وذكر جبل بـ"المزدلفة" اسمه "قزح"، وهناك صنم يقال له: "قزح" وقد تكون له صلة بهذا الموضوع. ويذكر أنه كانت على قزح أسطوانة من حجارة مدوّرة محيطها (24) ذرعاً وارتفاعها (13) ذراعاً كانت توقد عليها النيران منذ زمن قصيّ ليلة الجمعة.


وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة كان الحجاج في الجاهلية يفيضون من "المزدلفة" إلى منى لرمي الجمرات ولنحر العتائر، وإفاضة الجاهليين عند طلوع الشمس له دلالة على عبادة الشمس عندهم.


ورمي الجمرات بمنى من مناسك الحج، وهو من شعائر الحج المعروفة في المحجات الأخرى في جزيرة العرب، وكان معروفاً عند غير العرب أيضاً، ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى "عمرو بن لحي"، وترمى الجمرات على مكان عرف بموضع الجمار بمنى، تتجمع وتتكّوم عنده الحصى، وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة، ويرمي المسلمون كلاً منها بسبع حصيّات.


ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح وهي "العتائر" في الجاهلية، و "الأضاحي" أو "الهدي" في الإسلام، ولذلك عرف هذا العيد بعيد الضحى.


وكان الجاهليون يقلّدون "عتائرهم" بقلادة أو بنعلين يعلّقان على رقبة الحيوان، إشعاراً للناس بأنه للذبح.


ولا يحلّ للحجاج في الجاهلية حلق شعرهم أو تقصيره طيلة حجّهم وإلا بطل حجّهم.


ويلاحظ أنّ غير العرب من "الجزيريين" كانوا يفعلون ذلك في المناسبات الدينية، وكانت القبائل لا تحلق شعرها إلاّ عند أصنامها وذلك بعد النحر مباشرة، ولا يجوز أن يتّم قبله. ولا يقتصر ذلك على الحجّ إلى مكة، بل يمتد إلى بقية الآلهة، فكان الأوس يحلقون شعرهم عند مناة، وكانت "قضاعة" و"لخم" و"جذام" تقصّ شعرها عند "الأقيصر". ويجوز للحجاج مغادرة "منى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن فيهم من يبقى في هذا المكان حتى اليوم الثالث عشر وذلك ابتهاجاً بأيام العيد.


الحج فريضة سياسية ـ عبادية:
والجدير بالذكر أن الإسلام خطا بالضمير الإنساني شوطاً بعيداً في جميع هذه المناسك والعبادات، فالمسلم لا يحج إلى الكعبة ليعزّز فيها سلطان الكهّان أو ليقدّم إليهم القرابين والأتاوات، وإنّما هي فريضة "عبادية ـ سياسية" للأمة وفي مصلحة الأمة، وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأمة، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأمة الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله، وليس المقصود بالضحية في الإسلام أنها طعام للكهان، أو طعام للإله، ولكنها سخاء من النفس في سبيل العبادة، يشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين، متحملاً مشقة الرحلة وتكاليفها باذلاً الجهد لبلوغ مقاصدها .


ويمتاز الحج في الإسلام بدلالته الروحية التي تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأمم، التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الرضية، على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أمم وحدتها في العقيدة السماوية، وإن فرّقت بينها شتّى الأماكن والبقاع.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع